lundi 9 novembre 2020

المبحث الثاني: الحق في الحرمة الجسدية :

هو حق أساسي أقرته الشرائع والقوانين منذ قديم الزمان ونادت به المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الانسان المؤرخ في 10 ديسمبر 1948. وهذا ما ألهم دستور 2014 الذي أكد بوضوح في الفصل 22 منه أن "الحق في الحياة مقدس لا يجوز المساس به الا في حالات قصوى يضبطها القانون" مضيفا في الفصل 23 أن "الدولة تحمي حرمة الجسد وتمنع التعذيب المعنوي والمادي".

وتظهر هذه النصوص أن القانون يضمن الحرمة الجسدية للإنسان التي تعني فيما تعنيه أنه لا يجوز تهديد الأشخاص في حياتهم أو في أبدانهم كما يمنع الاعتداء المادي أو المعنوي عليهم.

ويلاحظ أن الحرمة الجسدية تحتل قيمة كبرى في أعين المشرع. وتبرز هذه القيمة خاصة من خلال العلوية الدستورية الممنوحة لهذا الحق علاوة على مختلف النصوص الأخرى التي تتضافر لتضمن له الحماية اللازمة. وهذه الحماية لا تقتصر على الأفعال الصادرة من الغير (الفقرة الأولى) بل تمتدّ كذلك ما يمكن ان يصدر عن الشخص نفسه من أفعال قد تتسبب في إلحاق الأذى به (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: حماية الشخص من فعل غيره

يستدعي الوقوف على هذه الحماية تناول مختلف مظاهرها (أ)قبل التطرق إلى حدودها(ب).

أ - مظاهر الحماية

 تظهر الحماية القانونية لجسد الإنسان من عدة نواح يمكن حصرها في اثنين: مدنيا (أولا)وجزائيا (ثانيا) .

أولا : من الناحية المدنية

تقتضي الحرمة الجسدية للفرد منع أي فعل أو عمل يمكن أن يشكّل اعتداء على الشخص أو انتهاكا لسلامة كيانه الجسدي مهما كان مبرره أو سببه. ويتجلى ذلك خاصة من خلال الأمثلة الآتية :

1/ بطلان الاتفاقات التي يكون محلها جسد الإنسان والتي تكون مضرة به أو ماسّة بسلامته الجسدية. ومثال ذلك الفصل 833 م ا ع الذي جاء به أن "الاجارة على مدة حياة الأجير أو على مدة طويلة جدا بحيث يموت الأجير فيها ، باطلة". ومعنى ذلك ان الشخص الذي يؤجر شخصا آخر على العمل مدة حياته يكون تصرفه باطلا بطلانا مطلقا لان مثل هذا العقد يجعل الأجير في تبعية تامة لمؤجره تذكّر بوضعية الاسترقاق الذي تم إلغاؤه في بلادنا منذ 23 جانفي 1846. كما يمنع القانون التعامل بالبيع والشراء في الأعضاء البشرية. ويعتبر أي اتفاق أو عقد من هذا القبيل باطلا أيضا.

 2/ عدم جواز جبر شخص على المثول امام القضاء او اخضاعه لتحليل طبي او اخذ عينات من دمه دون موافقته. فاذا رفض الحضور امام المحكمة او الامتثال لقراراتها جاز للقاضي استخلاص النتائج الضرورية من موقف المتقاضي وإصدار حكمه بناء على ما توفر لديه من معطيات في ملف القضية وما توصل إليه من استنتاجات. وغالبا ما يكون الحكم الصادر في القضية، في غير صالح الشخص الذي رفض التجاوب إيجابيا مع قرارات المحكمة.

3/ منع التنفيذ على الذات في المادة المدنية وإقرار مبدإ التنفيذ على المكاسب عملا بالفصل 192 م ح ع. وفعلا، فإذا صدر حكم قضائي بأداء مبلغ مالي ضد المدين، يمنع القانون جبره بالسجن وإنما تقع عقلة مكاسبه وممتلكاته وبيعها جبريا عن طريق هياكل التنفيذ (عدل منفّذ، محكمة..) ثم يتم خلاص الدين من ثمنها.

4/ تحمّل كل شخص يتسبب في مضرة غيره، المسؤولية المدنية عن الاعتداء الصادر عنه سواء أكان قصديا (الفصل 82م ا ع) او غير قصدي (الفصل 83 م اع). وتفضي المسؤولية المدنية الى إلزام المتسبب في الضرر بتعويض المتضرر عن الضرر المادي او المعنوي الذي ألحقه به.

ويمكن أن تقترن المسؤولية المدنية بمسؤولية جزائية.

ثانيا : من الناحية الجزائية

تبدو قواعد المسؤولية المدنية أحيانا غير كافية لضمان الحرمة الجسدية للإنسان. لذلك سعى المشرع الى تدعيمها جزائيا من خلال تجريم الاعتداء على الأشخاص. ومن أمثلة ذلك تجريم القتل العمد (الفصل 201 م ج) والضرب او الجرح الواقعان عمدا والمؤديان الى الموت (208 م ج) او قطع عضو من البدن او احداث تشويه في الوجه او التسبب في سقوط او عجز (الفصل 219 م ج). كما يجرّم المشرع الاغتصاب (الفصل 227 م ج) والاختطاف سواء باستعمال الحيلة او العنف او التهديد او غير ذلك من الأفعال التي تعتبر انتهاكا لسلامة وحرمة الانسان الجسدية (الفصل 237 م ج).....

ونظرا لخطورة هذه الأفعال، فقد أقرت المجلة الجزائية عقوبات تسلّط على المتسبب فيها تتراوح بين الإعدام في صورة القتل العمد او الاغتصاب وبين السجن لمدة قانونية تطول او تقصر بحسب قصد الجاني ونسبة الاضرار التي ألحقها بالضحية.

لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار الحرمة الجسدية حقا مطلقا؟

       ب - حدود الحماية

صحيح أن القانون دائما ما يتدخل لمنع الاعتداء المادي على الأشخاص وانتهاك حرمتهم الجسدية. لكن المشرع قد يضطرّ أحيانا إلى اتخاذ موقف معاكس في صور استثنائية بناء على اعتبارات مختلفة. وهذه الاعتبارات منها ما له علاقة بحماية المصلحة العامة (أولا) ومنها ما يتصل  بالمصلحة الخاصة (ثانيا).

              أولا- فيما يتعلق بالمصلحة العامة :

تدعو الضرورة والمصلحة العامة في بعض الأحيان إلى تقييد الحق في الحرمة الجسدية من باب ارتكاب أخف الاضرار. وفعلا، ففي الموازنة بين حق الشخص في سلامته الجسدية ومصلحة المجتمع في حفظ النظام العام يختار المشرع غالبا الحل الثاني. وتتفاوت الوسائل التي يعتمدها المشرع لحماية المجتمع من حيث وطأتها بحسب خطورة الوضعيات التي يواجهها. ويمكن تصنيف هذه الوسائل عموما إلى نوعين: وقائية (1) زجرية (2).

 

 

1/ الوسائل الوقائية:

 المقصود بالوسائل الوقائية هي الصور التي يضطر فيها المشرع الى اتخاذ إجراءات ضد الأشخاص تخالف نظريا حقهم في الحرمة الجسدية ولكنها تفرض نفسها فرضا حماية لهم ولمصلحة المجتمع.

 وبعض هذه الإجراءات يبدو معقولا ومقبولا، بينما يبدو بعضها الآخر قابلا للنقاش.

فبالنسبة إلى النوع الأول، يشار مثلا إلى العزل الاتقائي للمريض المصاب بمرض مُعْدٍ كمرض السيدا مثلا عملا بالفصل 11 من القانون المؤرخ في 27 جويلية 1992 المتعلق بالأمراض السارية. فتطبيقا لهذا القانون، يمكن إصدار قرار  بالعزل وتنفيذه ولو بالقوة ضد الأشخاص المصابين بمرض من الامراض المعدية وذلك في حالتين أساسيتين :

              1/ إذا رفضوا مباشرة او متابعة العلاج المحدد لهم رغم الزامهم بذلك.

              2/ إذا سعوا عمدا من خلال سلوكهم الى نقل المرض المصابين به الى أشخاص آخرين.

وتقترب من صورة العزل الاتقائي بموجب القانون المذكور، ما تضمنه مؤخرا مرسوم 17 أفريل 2020 الذي ورد في فصله الثالث انه "يمكن اتخاذ عدة تدابير من قبل السلط العمومية قصد إلزام الأشخاص بالعزل الاتقائي بمنازلهم سواء أصيبوا ام لا يصابوا بمرض "كوفيد 19".

وتدخل في نطاق الوسائل الوقائية الواجب اتخاذها رغما عن إرادة الأشخاص، إيواء من كان مصابا باضطرابات عقلية في المستشفى ولو مع استعمال القوة ان اقتضى الأمر وذلك عملا بالفصل 11 وما يليه من القانون المؤرخ في 03 أوت سنة 1992 المتعلق بالصحة العقلية. وفعلا فقد جاء صراحة في هذا القانون انه "إذا تبين وثبت أن الحالة الصحية للمريض تمثل تهديدا لسلامته او لسلامة غيره فيمكن ايواؤه وجوبيا بالمستشفى دون رضاه".

وأما بالنسبة إلى النوع الثاني (الحلول القابلة للنقاش )، فيشار خاصة الى قانون 24 جانفي 1969 المتعلق بالاجتماعات العامة والمواكب والاستعراضات والمظاهرات والتجمهر  الذي ينظم كيفية تدخل القوة العامة للتصدي للمظاهرات ولأعمال الشغب التي يمكن أن تحدث في البلاد. فقد اقتضى الفصل 21 من هذا القانون انه "إذا وجد أعوان الأمن أنفسهم أمام متجمهرين يأبون التفريق رغم الإنذارات الموجهة لهم والمنصوص عليها بالفصول المتقدمة من هذا القانون فإنهم يستعملون بالتدرج الطرق التالية لتشتيتهم:

1/ الرش بالماء أو المطاردة بالعصي.

2/ الرمي بالقنابل المسيلة للدموع.

3/طلق النار عموديا في الفضاء لتخويف المتجمهرين.

4/طلق النار صوب أرجلهم."

ثم تضمن الفصل الموالي انه" إذا عمد المتجمهرون إلى بلوغ مقاصدهم بالقوة رغم استعمال جميع الطرق المنصوص عليها بالفصل 21 لتشتيتهم فإن أعوان الأمن يطلقون عليهم النار مباشرة."

وواضح أن غاية المشرع من الوسائل الممنوحة لقوى الأمن، هي تجنب الفوضى ومنع تفاقم أعمال الشغب. لكن هذين النصين يطرحان عدة صعوبات تتعلق خاصة بكيفية ضمان التوازن بين متطلبات تحقيق الأمن وحماية المجتمع من الاعتداءات الممكنة الصادرة عن المتظاهرين وبين احترام الحق في التظاهر وواجب الأمنيين في عدم الإفراط أو المغالاة في استعمال القوة عند مواجهة أعمال التظاهر مع مراعاة مبدإ الحرمة الجسدية للأشخاص .

وتختلف الوسائل الوقائية عن الوسائل الزجرية.

 

2/ الوسائل الزجرية:

تشمل الوسائل الزجرية أساسا العقوبات التي يسلطها القانون الجزائي على مرتكبي الجرائم الذين تثبت إدانتهم قضائيا. وقد جاء تعدادها بالفصل 5 من المجلة الجزائية الذي ميز بين نوعين من العقوبات: أصلية وتكميلية. ويشمل النوع الأول، الإعدام أو السجن مدى الحياة أو مدة معينة والعمل لفائدة المصلحة العامة والخطية، بينما يدخل في النوع الثاني منع الإقامة والمراقبة الإدارية ومصادرة المكاسب والحجز الخاص والاقصاء والحرمان من مباشرة الحقوق...

  ورغم أن بعض هذه الجزاءات يبدو متعارضا مع قدسية الحياة المضمونة دستوريا (الإعدام) أو سالبا للحرية (السجن) إلا أن ذلك لا يعتبر تعديا على الحرمة الجسدية بما أن القانون يسمح به حماية للمجتمع من الجريمة وردعا للمجرمين.

 

ثانيا - فيما يتعلق بالمصلحة الخاصة:

يستبعد المشرع الحماية المقررة للكيان المادي للانسان في صور شتى لا علاقة لها بالمصلحة العامة نذكر منها وضعيتين، ترتبط الأولى بحالات الضرورة (1) بينما تتعلق الثانية بالعقد الطبي (2).

 

1/ حالة الضرورة

قد تدعو الضرورة أو الظروف القاهرة أحيانا أحد الأشخاص إلى ارتكاب فعل يلحق أذى بغيره. ومع ذلك فلا يعتبر هذا الفعل تعديا موجبا للمسؤولية المدنية. وهذا ما أقره المشرع صراحة في الفصل 104 م اع  الذي تضمّن أنه "لا ضمان على من اضطر إلى الدفاع الشرعي. كما لا ضمان بمضرة حصلت بأمر طارئ او قوة قاهرة اذا لم يكن هناك خطأ منسوب الى المطلوب قبل وقوع الحادثة او أثناءها". والمقصود بالقوة القاهرة حسب الفصل 283 م اع هو كل ما لا يستطيع الانسان دفعه كالحوادث الطبيعية او الغزو الخارجي او فعل السلطة....

وإذا كان الفصل 39 من المجلة الجزائية يقرر أيضا أن الدفاع الشرعي عن النفس او عن حياة احد الأقارب هو سبب للإعفاء من المسؤولية الجزائية، إلا أن ذات القانون يضيف أسبابا أخرى تمنع المؤاخذة الجزائية أهمها ما يلي:

- اذا كان الفعل صادرا عن طفل غير مميز او شخص فاقد العقل (فصل 38 م ج).

- اذا كان القتل او الجرح او الضرب واقعا ليلا لدفع تسور او خلع سور او ثقب جدران أو اذا كان الفعل صادرا  لمقاومة مرتكبي سرقة او سلب (الفصل 40 م ج).

- إذا كان العمل المرتكب قد وقع طاعة لمجرم وخوفا منه (الفصل 41 م ج).

- اذا ارتكب الفعل بمقتضى نص قانوني او اذن من السلطة العامة (فصل 42 م ج).

وهكذا، يلاحظ في جميع الصور المتقدمة أن المشرع يغضّ الطرف عن الأفعال التي تبدو في ظاهرها تعديا على ذات الأفراد ولكنها في حقيقتها لها ما يبررها بالنظر إلى ملابساتها والدوافع التي أدت إليها. وهو إذ يقصيها من مجال التتبعات المدنية أو الجزائية، فهو يراعي الاعتبارات الخاصة بمرتكبي تلك الأفعال وحالة الضرورة التي دفعتهم إلى الدفاع عن أنفسهم أو عن ذويهم أو مكاسبهم وغير ذلك من الأسباب المعفية من المسؤولية.

              2/ العقد الطبي:

المقصود بالعقد الطبي هو الاتفاق الذي ينشأ بين الطبيب والمريض والذي بمقتضاه يخضع المريض الى أعمال التداوي التي يباشرها الطبيب لفائدته ومنها إجراء عملية جراحية عند الاقتضاء. ويرتب هذا الاتفاق جملة من الالتزامات محمولة على الطرفين أهمها بالنسبة إلى الطبيب واجب بذل ما في وسعه من مجهود لمعالجة المريض على أن يلتزم المريض في المقابل بدفع أجرته وأتعابه.

ويبدو من قبيل التزيد ملاحظة أن الأعمال الجراحية الذي يجريها الطبيب على مريضه لا تعتبر اعتداء أو هتكا لحرمته الجسدية بما أن مصلحة المعني بالأمر وحاجته إلى الشفاء من مرضه أو إنقاذه من الموت تعدّ مبررات كافية لمباشرة التدخل الطبي.

غير أن العقد الطبي يطرح بعض الصعوبات التطبيقية التي مردها أنّ المريض يكون عموما غير عارف بأصول الطب وبطرق العلاج من المرض كما قد يكون في وضع صحي متدهور يقتضي التدخل السريع لإنقاذه. من هنا تطرح عدّة أسئلة: فإلى أي مدى يحق للطبيب التصرف في جسد مريضه؟ وهل له الصلاحيات المطلقة لاختيار طريقة العلاج التي يراها؟ وهل يمكنه ان يفرض على مريضه خياراته الطبية وان يجري عليه عملية جراحية دون رضاه؟ وهل يجب على الطبيب الحصول مسبقا على موافقة  المريض أو أقربائه قبل القيام بأي تدخّل ؟ أو يجوز له مباشرة أعماله دون استئذان أحد؟

مثل هذه الأسئلة وغيرها تطرح يوميا في التطبيق. وقد اختلفت المواقف التشريعية بخصوصها. فمن المشرعين من أوجد أجوبة صريحة لها كالمشرع الفرنسي الذي منع الطبيب من القيام بأي عمل طبي دون موافقة المريض (Article L1111-4 du code de la santé publique). ومنهم من لازم الصمت.

أما القانون التونسي فلم يجب مباشرة عن الأسئلة المذكورة وإنما وفّر بعض عناصر الإجابة في مجلة الطبيب الصادرة بمقتضى الأمر عدد 1155 لسنة 1993 المؤرخ في 17 ماي 1993، حيث اقتضى الفصل 2 من هذه المجلة أنه:" يتمثل الواجب الأساسي للطبيب في جميع الظروف في احترام الحياة واحترام النفس البشرية" وجاء بالفصل 5 من ذات القانون أنه:" يتعين على كل طبيب باستثناء حالة القوة القاهرة ومهما كانت وظيفته أو اختصاصه الإسراع بتقديم الإسعافات المتأكدة جدا لمريض في حالة خطر محدق...". أما الفصل 10 فقد أقر صراحة ضرورة احترام مبدأين أساسين وهما: حرية اختيار المريض لطبيبه من جهة وحرية اختيار الطبيب لطرق العلاج من جهة أخرى.

وواضح من هذه النصوص أن الطبيب مطالب باحترام الحق في الحياة ومراعاة الحرمة الجسدية للإنسان. كما من واجبه عدم التأخر في معالجة المريض خصوصا في الحالات المتأكدة. وفي المقابل فهو يتمتع بالاستقلالية والحرية في اختيار طرق العلاج الضرورية.  لكن المشرع لم يفرض عليه بشكل واضح إعلام المريض بحالته الصحية ولم يلزمه بأخذ موافقته المسبقة قبل اتخاذ أي إجراء. ومع ذلك فإن الأخلاقيات الطبية تدعو الطبيب ولو في غياب نص صريح إلى إحاطة مريضه علما بمختلف الإجراءات الوقائية أو العلاجية المقترحة وفائدتها ومدى ضرورتها وعواقبها والمخاطر المنجرّة عنها وغير ذلك من المعطيات الضرورية قبل مباشرة أي عمل. ويستثنى من ذلك حالة التأكد الشديد كأن يكون الشخص فاقدا الوعي ويجب التدخل سريعا لإنقاذه من الموت، فعندئذ لا مجال لانتظار عودة المريض إلى وعيه أو قدوم أقاربه لأخذ الإذن بإجراء التدخل الجراحي بما أن الحق في الحياة يسمو على كل الاعتبارات الأخرى.

 ولا يقبل الانتقاص من هذا الحق حتى لو كان الفعل الماسّ بالحرمة الجسدية صادرا عن شخص المتضرر  نفسه.

 

 

الفقرة الثانية: حماية الشخص من فعل نفسه

إذا كان القانون يمنع الاعتداء على الحرمة الجسدية للفرد، فهل يقتصر هذا المنع على ما يصدر عن الغير من اعمال ضارة ام يمتد ذلك أيضا الى فعل الشخص نفسه؟ وبعبارة أخرى هل يجوز للشخص ان يلحق الأذى بنفسه؟ وما مدى سلطة الانسان على جسده؟

اختلف موقف الشراح هنا أيضا. فمنهم من ذهب إلى أن للإنسان حقا مطلقا على جسده قياسا على حقه في التصرف في ممتلكاته. وحسب هذا الرأي، إذا كان من حق الشخص التعامل في مكاسبه والتفريط فيها كما يريد فلا شيء يمنعه من التصرف في جسده الذي هو ملك له.

              غير ان هذا الموقف مبالغ فيه، إذ لا يجوز ان يعتبر جسم الانسان شيئا قابلا للتصرف كغيره من الأشياء. كما ان مبدأ الحرمة الجسدية لا يكون مضمونا اذا خولنا للإنسان إلحاق الضرر بنفسه وإعطائه حقا مطلقا على كيانه المادي. وهذا ما أقره القانون المدني الإيطالي مثلا في فصله الخامس حيث حرّم على الشخص التصرف في جسمه تصرفا يرتب نقصا او عاهة مستديمة له او يكون مخالفا للقانون او النظام العام او الاخلاق الحميدة.

ورغم ان القانون التونسي لا يتضمن مثل هذا النص الا ان الحلول التي يكرسها تبرز أن الشخص ليس له حق مطلق على جسده. فهناك أفعال مقبولة تدخل في باب المباحات (أ) وهناك تصرفات غير مقبولة تعتبر من المحظورات (ب).

أ‌-    المباحات :

من بين الأعمال المباحة التي يسمح بها القانون رغم ما فيها من تهديد لحياة الإنسان، الرياضات الخطرة كالملاكمة وغيرها من فنون القتال وتسلق الجبال والغوص في أعماق البحار وركوب الخيل أو الدراجات النارية وسباق السيارات وذلك بقطع النظر عن بعض العروض الفرجوية التي فيها مجازفة كبيرة بحياة الشخص كألعاب السيرك مثلا.   

ويلاحظ من جهة أخرى أنه أمام تطور العلوم الطبية، فسح المشرع المجال أمام التصرف في جسد الإنسان مراعاة لاعتبارات سامية وتحقيقا لغايات جليلة. ويشار في هذا الإطار خاصة إلى النصوص الآتية:

1/القانون عدد 22 لسنة 1991 المؤرخ في 25 مارس 1991المتعلق بأخذ الأعضاء البشريّة وزرعها.

2/الأمر عدد 1401 لسنة 1990 المؤرخ في 3 سبتمبر 1990 المتعلق بضبط كيفيات التجارب الطبية أو العلمية للأدوية المعدة للطب البشري المنقح والمتمم بالأمر عدد 3657 لسنة 2014 مؤرخ في 3 أكتوبر 2014 .

3/القانون عدد 93 لسنة 2001 المؤرخ في 7 أوت 2001 والمتعلق بالطب الإنجابي.

 

ب - المحظورات :

إذا كان من حق الإنسان أن يتحكم في جسده فلا يمكن أن يكون هذا الحق مطلقا. وهذا ما يفسر عدم جواز  إقدام الشخص على قتل نفسه. وهو ما نهى عنه الإسلام واعتبره المشرع جريمة بالنسبة الى من يساعد شخصا على الانتحار عملا بالفصل  206 م ج الذي اقتضى:" يعاقب بالسجن مدة خمسة سنوات الانسان الذي يعين قصدا غيره على قتل نفسه بنفسه".

كما يمكن إعطاء أمثلة أخر ى عن المنع مستمدة من القانون عدد 93 لسنة 2001 المؤرخ في 7 أوت 2001 المتعلق بالطب الإنجابي، حيث اقتضى الفصل  أنه 14 يمنع اللجوء إلى الغير للتبرّع بالأمشاج في إطار الطب الإنجابي، كما يمنع التبرع بالأجنة. وأضاف الفصل 15 أنه لا يمكن بأي صورة من الصور في إطار الطب الإنجابي استعمال رحم امرأة أخرى لحمل الجنين.