dimanche 25 octobre 2020

نظرية الحق

ب – أحكام الاسم:

خلافا للقب العائلي الذي يسند وجوبا الى الطفل المولود باعتبار نسبه الى والده، فان اسناد الاسم هو مسألة متروكة لحرية الاختيار. ويقع اختيار الاسم من افراد العائلة (الاب او الام او الاثنين معا او غيرهما...). واذا رغب الوالدان، يمكن لهما ان يطلقا على مولودهما اسما مركبا (محمد الهادي، محمد أمين،...). وهذا دارج في عاداتنا وأيّده المشرع في الفصل الأول من قانون 26 ماي 1959 بقوله : "ينبغي على كل مواطن تونسي ان يكون له زيادة على اسمه أو أسمائه، لقب عائلي". ولم يضع المشرع في هذا القانون ولا في أي نص آخر قائمة محددة في الأسماء التي يمكن اطلاقها على الأبناء. لكن المنشور الصادر في 12 ديسمبر 1965 تحت عدد85 عن كاتبي الدولة للعدل والداخلية تضمن جملة من الضوابط الواجب احترامها، اذ جاء به: "يحجر اسناد الأسماء غير العربية للمواليد. كما يحجر اسناد اللقب كاسم او ان تسند الى المواليد القاب الزعماء او أسماؤهم او القابهم في آن واحد. ويجر أيضا اختيار أسماء مستهجنة او منافية للأخلاق او محل التباس".

 ويمارس ضابط الحالة المدنية الذي يتلقى التصريح بالولادة نوعا من الرقابة على الأسماء المختارة. ويجوز له رفض ترسيم اسم ما بدفتر الحالة المدنية اذا كان مخالفا للضوابط التي جاء بها منشور 12 ديسمبر 1965. غير أن المشرع لم يبين بصراحة كيفية التظلم من قرار الرفض وما هي الوسائل القانونية او الطعون المتاحة للآباء الذين يصرون على التمسك بالاسم المختار من قبلهم. وهو ما يفتح المجال، نظريا على الأقل، للجوء الى الاحكام الإجرائية العامة المتعلقة بالتظلم ضد الإدارة امام المحكمة الإدارية.

لكن يلاحظ في التطبيق ان المعنيين بالأمر غالبا ما يعمدون الى التوجه الى المحكمة الابتدائية (دائرة الأحوال الشخصية) بعد مضي اجل العشرة الأيام المقرر للتصريح بالولادة امام ضابط الحالة المدنية، ثم يطلبون ترسيم الاسم قضائيا. وغالبا ما تستجيب المحكمة لطلبهم إذا لم تكن فيه مخالفة كبيرة لمنشور 12 ديسمبر 1965. على ان المطلع على فقه القضاء الفرنسي، يجده زاخرا بالأحكام القضائية التي نظرت في الخلافات الناتجة عن رفض ترسيم اسم من قبل مسؤول الحالة المدنية. ومثال ذلك القرار التعقيبي الصادر بتاريخ 17 جويلية 1984 الذي لم يؤيد موقف الابوين الذين ارادا ان يطلقا على مولودهما اسم المكان الذي التقيا فيه لأول مرة. ونفس الموقف اتخذته محكمة التعقيب الفرنسية من الابوين الذين اختارا لمولودهما عنوان الاغنية التي رقصا عليها. كما رفضت ذات المحكمة إطلاق اسم أحد أبطال الصور المتحركة «Titeuf» الذي وقع عليه اختيار الابوين لتعارض ذلك مع مصلحة الطفل. وفي المقابل، رأت محكمة التعقيب الفرنسية في قضية أخرى انه لا مانع من اطلاق اسم "ميقان Megane" على طفل لقبه العائلي "رينو Renaud".

وتجدر الإشارة إلى ان التصريح بالأسماء أمام ضباط الحالة المدنية كان في السنوات الأخيرة مصدرا لعديد الصعوبات والاشكاليات في بلادنا، زادتها تأججا منظمات وجمعيات المجتمع المدني المنادية باحترام حرية الآباء في اختيار أسماء أبنائهم ورفع الحواجز القانونية عليها. ويبدو ان هذه المعطيات كانت من العوامل الأساسية التي أدت الى الغاء منشور 12 ديسمبر 1965 مؤخرا. وفعلا فقد صدر عن وزير الشؤون المحلية بتاريخ 15 جويلية 2020 منشور تحت عدد 13 تقرر بمقتضاه انهاء العمل بمنشور 1965. وعللت السلطة التنفيذية موقفها بأن التحجيرات والموانع المقررة بمقتضى النص الملغى "تعتبر نوعا من التقييد على حرية اختيار الوالدين لأسماء المواليد الجدد عند ترسيمهم بدفاتر الولادات"، مضيفة ان تطور الإطار القانوني للحريات في تونس بعد صدور دستور 27 جانفي 2014 ومصادقة بلادنا على عدة مواثيق دولية لها علاقة بالحريات وحقوق الطفل، يفرض عدم المساس بحرية الإباء في اسناد اسم لأبنائهم.

غير ان صدور هذا المنشور لا يمنع من التساؤل عن مدى الحرية المتاحة في اختيار الأسماء؟ فهل يؤدي الغاء التحجيرات التي كانت موجودة بمقتضى منشور 12 ديسمبر 1965 الى إطلاق يد الآباء في اسناد اسم لأبنائهم دون قيود؟ وهل الحرية تعني إمكانية تغيير الاسم لاحقا؟ واذا كان الجواب بالنفي، فما هو أساس ذلك؟

 فيما يعلق بحرية اسناد الاسم، يجب الإقرار بانها لا يجب ان تصبح مطلقة، اذ لا يجوز حتى بعد الغاء منشور 1965 السماح للآباء باطلاق أسماء يمكن ان تكون محل التباس او سخرية. كما يجب التنبيه الى ان استعمال حق اختيار الاسم من قبل الإباء يجب ان يكون دون افراط حفاظا على مصلحة الطفل. وهو ما يستنتج من صريح الفصل 4 من مجلة حماية الطفل الذي جاء به :"يجب اعتبار مصلحة الطفل الفضلى في جميع الإجراءات التي تتخذ في شأنه سواء من قبل المحاكم او السلط الإدارية..." ويراعى في ذلك "حاجيات الطفل الأدبية والعاطفية...".

 وأما فيما يتعلق بمدى إمكانية استبدال الاسم بآخر، فالجواب هو المنع، اذ ان المبدأ هو عدم قابلية الاسم للتغيير الّلهم الا في حالات استثنائية تعرض لها المشرع في بعض القوانين المتفرقة منها خاصة قانون 28 ماي 1964 المتعلق بالسماح لبعض التونسيين بتغيير اللقب او الاسم  الذي تضمن في فصله الثاني ما يلي: "يمكن لكل تونسي ليس له اسم عربي او مغربي ان يطلب الاذن بابدال اسمه بأمر ان كانت له مصلحة شرعية تبرر ذلك" . كما خوّل الفصل 14 من القانون عدد 27 لسنة 1958 المؤرخ في 4 مارس 1958 المتعلق بالولاية العمومية والكفالة والتبني للمتبنيِ ان يطلب تغيير اسم الطفل المتبنَّى وينص على ذلك بحكم التبني.

وفيما عدى مثل هذه الوضعيات التي يقررها المشرع بنص صريح،  لا يجوز لأحد استبدال اسمه باسم آخر تفاديا للتلاعب بالهويات او الاخلال بالأمن العام.

ويبقى الآن ان نتعرض الى العناصر الأخرى للهوية.


الفقرة الثانية: العناصر الأخرى للهوية :

لا يكفي الاسم واللقب لتحديد هوية الشخص بل يجب ان تنضاف معطيات أخرى تضمن تفرّده، تتعلق خاصة بجنسيته (أ) ومقره (ب) وجنسه (ج).

أ – جنسية الشخص:

يمكن تعريف الجنسية عموما بأنها رابطة قانونية قائمة بين الفرد والدولة يصبح بموجبها مواطنا من مواطنيها له كل الحقوق التي تقرها هذه الدولة وعليه كل الواجبات التي تفرضها.

وتعتبر الجنسية حقا أساسيا من الحقوق الذاتية وتمنع الدساتير والمواثيق الدولية حرمان الشخص من جنسيته او منعه من الحصول على جنسية أخرى. كما تعدّ إحدى المكونات الأساسية لهوية الشخص لأنها تثبت انتماءه إلى الدولة التي يتبعها دون غيرها من الدول التي ليست له جنسيتها.

ويخضع تنظيم الجنسية في بلادنا الى مجلة الجنسية الصادرة بموجب المرسوم عدد 6 لسنة 1963 المؤرخ في 28 فيفري 1963 المتعلق بإعادة تنظيم مجلة الجنسية. ويتضح بقراءة هذه المجلة ان الجنسية التونسية يمكن ان تسند اما بصورة أصلية او بفضل القانون.

- أما بصورة أصلية، فتسند الجنسية للطفل المولود لأب تونسي او المولود بتونس من أمّ تونسية واب أجنبي او مجهول او لا جنسية له او كذلك أب  مجهول الجنسية بشرط ان لا يكون الطفل قد بلغ سن الرشد في تاريخ اجراء العمل بالمجلة. كما تسند الجنسية بصفة اصلية لمن ولد بتونس من اب وجد للأب مولودين بها بشرط ان يكون راشد عند دخول المجلة حيز النفاذ.

- وأما بفضل القانون، فيمكن الحصول على الجنسية من الطفل المولود بالخارج من أمّ تونسية وأب أجنبي إذا كان دون سن الرشد. وكذلك من المرأة الأجنبية المتزوجة بتونسي بشرط ان تكون مقيمة مع زوجها بتونس منذ ما لا يقل عن عامين. كما يمكن ان يتحصل على الجنسية التونسية الأجنبي المقيم بتونس منذ أكثر من خمس سنوات.

ب - مقر الشخص:

لكل شخص عادة مقرّ يقطن فيه ويتواجد به. ويخضع تحديد المقر لمشيئة الأفراد عملا بصريح الفصل 24 من الدستور في فقرته الثانية حيث ورد:" لكلّ مواطن الحرية في اختيار مقرّ إقامته". ويساعد تحديد مكان وجود الشخص في معرفته وتمييزه عن غيره من الأشخاص المتواجدين في مقرات أخرى مغايرة.

ويحتل المقر قيمة بالغة في القانون من عدة أوجه: فهو من جهة يسمح بتحديد المكان الذي يمارس فيه شخص حقوقه، كحق الانتخاب مثلا الذي يمارسه الناخب في الجهة التي يقطن فيها . او الحق في الدراسة الذي يمارسه التلميذ في أقرب مدرسة او معهد لمحل اقامته. وهو من جهة أخرى يحدد الواجبات المفروضة على الأشخاص. كواجب دفع الاداءات البلدية الذي ينبغي القيام به لدى الجماعة المحلية (البلدية)التي يوجد بدائرتها مقر المطالب بالاداء. ويحدد كذلك صحة بعض التصرفات القانونية كتكوين الشركة حيث اقتضى الفصل 9 ضرورة التنصيص على مقر الشركة في عقدها التأسيسي. أو أيضا ميدان تطبيق القانون ومثال ذلك الفصل 10 من مجلة الشركات التجارية الذي اقتضى ان وجود المقر الاجتماعي في تونس يجعل الشركة خاضعة وجوبا للقانون الوطني.

 وتتأكد أهمية المقر أكثر في ميدان الإجراءات المدنية والتجارية، اذ على أساسه يمكن معرفة المحكمة التي يجب ان ترفع الدعوى امامها. وهي المحكمة التي يوجد بدائرتها مقر المطلوب عملا بالفصل 30 م م م ت. كما انه ضمانا لاحترام حق الدفاع، تفرض مجلة المرافعات المدنية والتجارية استدعاء المطلوب امام المحكمة لتقديم جوابه عن الدعوى وابداء ما له من اقوال ودفوعات لردها. ويجب توجيه الاستدعاء للمطلوب في مقره الأصلي او مقره المختار.

- اما المقر الأصلي للشخص فهو المكان الذي يقيم فيه عادة أي محل سكناه. ويمكن ان يعتبر المكان الذي يباشر فيه الشخص مهنته او تجارته مقرا أصليا له بالنسبة للمعاملات المتعلقة بالنشاط المذكور (الفصل 7 (فقرة أولى) م م م ت).

- وأما المقر المختار فهو المكان الذي يعينه الاتفاق او القانون لتنفيذ التزام او للقيام بعمل قضائي. ومثال المقر الاتفاقي او الارادي، المقر الذي يتم التنصيص عليه في العقد المبرم بين طرفيه لتقع فيه مخابرتهما أي لكي يخاطب فيه كل طرف الطرف الاخر او يبلغه أية وثيقة في العنوان الذي اختاره. أما في خصوص المقر المعين بموجب القانون فتمكن الإشارة مثلا الى الفصل 68 م م م ت الذي اقتضى ان : "انابة المحامي وجوبية لدى المحكمة الابتدائية الا في مادة الأحوال الشخصية . ومقر المحامي يعتبر مقرا مختارا لمنوبه في درجة التقاضي الذي هو نائب فيها".

ويلاحظ ان تبليغ المحاضر والاعلامات والاستدعاءات وغيرها من الوثائق الى المطلوب يبدو سهلا اذا كان معروف المقر. اما اذا كان مجهول المقر، وجب ان يكون التبليغ في أماكن أخرى نص عليها الفصل 10 م م م ت مفرّقا بين من كان له مقر معروف وبارحه (فرضية مجهول المقر) وبين من لا يعرف له أي مقر لا في السابق ولا في الحاضر (فرضية مجهول المقر مطلقا). ففي الحالة الأولى يجب ان تودع نسخة المحضر المراد تبليغه للمعين بالامر في ظرف مختوم لدى كتابة محكمة الناحية او عمدة المكان او مركز الامن الوطني او مركز الحرس الوطني لآخر مقر معروف له. في حين انه في الحالة الثانية يجب ان تعلّق نسخة من الاعلام بالمحكمة المتعهدة بالقضية ونسخة أخرى بمقر الولاية التي توجد بدائرتها المحكمة المذكورة.

ج -  جنس الشخص :

لا يوجد تعريف تشريعي لهذا العنصر من عناصر الهوية. ولكن العديد من الوثائق الرسمية كبطاقة التعريف الوطنية او جواز السفر تتضمن وجوبا الإشارة اليه الى جانب البيانات الأخرى التي تميز الشخص. ولعلّ من أهم الوثائق الرسمية التي يجب التنصيص فيها على الهوية الجنسية، رسوم الولادات التي يحررها ضابط الحالة المدنية تطبيقا للفصل 26 (فقرة اولى) من القانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في غرة اوت 1957 الذي اقتضى أنه:" ينصّ برسم الولادة على اليوم والساعة ومكان الولادة وجنس المولود...". ويقع هذا التنصيص إثر تلقي التصريح بالولادة الصادر عن الولي او غيره استنادا الى الشهادة الطبية المسلمة له. ويبيّن ضابط الحالة المدنية في الرسم ان كان المولود ذكرا او انثى.

والمفروض ان الانتماء الجنسي هو عنصر ثابت وقار لدى الشخص غير قابل للتغيير او التحوير. ومع ذلك يمكن ان تحصل في التطبيق وضعيات تفرض تدخل القضاء للنظر في مدى إمكانية ادخال تحويرات على عناصر الحالة المدنية للشخص بناء على وجود تغيير في جنسه. وقد أثار هذا التدخل سلسلتين من الصعوبات:

              1/ تتعلق الأولى بصورة الغلط المادي في رسم الحالة المدنية، اذ يمكن لضابط الحالة المدنية ان يرتكب بمناسبة تلقي التصريح بالولادة غلطا ماديا، فينص على ان المولود هو ذكر والحال انه أنثى أو انه انثى في حين انه ذكر. وهذا الغلط دارج في التطبيق. ولذلك أفرده المشرع بأحكام خاصة في القانون المنظم للحالة المدنية تبين كيفية إصلاحه. ويتحقق ذلك بموجب طلب يقدم الى رئيس المحكمة الابتدائية بالمنطقة التي حرر فيها الرسم (الفصلان 63 و64). وتصدر المحكمة قرارا بالإصلاح تأذن فيه بتغيير رسم الحالة المدنية. ومثال ذلك الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية ببن عروس تحت عدد 621 بتاريخ 28 مارس 1990 الذي قضى بتغيير اسم المعني بالامر من "أميرة" الى "أمير". وعللت المحكمة قرارها بان الاسم المسجل في الترسيم لا ينطبق على الجنسين وبأن مبدأ عدم قابلية الاسم للتغيير لا ينطبق الا في صورة طلب تغيير اسم بآخر من نفس الجنس دون وجود تغيير في الجنس. وليست هذه هي صورة الحال في الملف المعروض على نظرها.

              / اما النوع الثاني من الصعوبات، فيبرز في الصور التي يتعرض فيها بعض الأشخاص إلى تحولات فيزيولوجية تحدث تغيرات في مكوناتهم الجسدية وانتمائهم الجنسي اما بشكل طبيعي او إثر تدخل طبي. ويثير هذا التغيير المادي في صورة تحققه سؤالا قانونيا هاما يتعلق بمعرفة إن كان من الجائز للشخص المتغير جنسيا طلب تحوير عناصر حالته المدنية وتحديدا اسمه وجنسه؟

لقد طرح هذا الاشكال على القضاء في مناسبات عديدة. من ذلك القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 22 ديسمبر 1993 تحت عدد 10298 الذي تمثلت وقائعه في قيام شخص يدعى "سامي" بقضية امام المحكمة الابتدائية بتونس مدعيا انه مع مرور الايام تغيرت بعض أعضائه بشكل طبيعي وصارت له خاصيات انثوية، مما اضطره الى اجراء عملية جراحية تحول بمقتضاها الى انثى مدليا بشهادة طبية واختبار طبي في الغرض. واستنادا على ذلك طلب من المحكمة الحكم لفائدته باعتباره انثى لا ذكرا والاذن له بحمل اسم "سامية" ولضابط الحالة المدنية بالتنصيص على ذلك بدفاتره. إلاّ أن المحكمة الابتدائية رفضت هذا الطلب وتأيّد موقفها في الاستئناف. وعللت محكمة الاستئناف رأيها بان تغيير الجنس اراديا واصطناعيا يتعارض مع مبادئ الفقه الاسلامي واحكامه ولا يعتبر من حالات الضرورة التي تبرر ذلك. ومن المتجه في مثل هذا الحالات اللجوء الى العلاجي النفساني لاسترجاع الشخص توازنه النفسي لا الاسراع في اجراء تغيير اصطناعي في جنسه. كما اضافت المحكمة ان القضاء لا يمنح الحقوق الا بقدر ما تكون متطابقة مع القانون والنظام العام. وهو ما لا يتوفر في صورة الحال. ولذلك قضت بتأييد المحكمة الابتدائية في حكمها القاضي برفض مطلب تغيير الحالة المدنية للمدعي.

غير ان هذا الموقف ليس محل اجماع لدى فقه القضاء. فقد سبق طرح الموضوع على المحكمة الابتدائية ببن عروس وقالت رأيها فيه بموجب الحكم الصادر عنها تحت عدد 621 بتاريخ 28 مارس 1990 حيث قبلت مطلب تغيير الحالة المدنية من انثى الى ذكر مرتكزة على تقرير الاختبار الطبي الذي اثبت ان المشكل المطروح يتعلق بشخص لم تكن خصائصه الجنسية متضحة المعالم عند ولادته، فتم تصنيفه كأنثى والحال انه يتصف بجميع مقومات الذكورة، كما عاينت المحكمة ان مطلب تغيير الجنس في وثائق الحالة المدنية ليس ناتجا عن نزوة شخصية او تدخل طبي وانما هو قائم على وجود تغيرات طبيعية في الملامح الفيزيولوجية للطالب و لذلك استجابت لطلبه.

ويبدو ان نفس هذا الموقف نسجت عليه المحكمة الابتدائية بقفصة في حكمها المؤرخ في 12 فيفري 2007 تحت عدد 54406 مميزة بين وضعية اختلاط الجنس  ( l’intersexualité) حيث يكون الشخص منذ ولادته غير محدد الملامح الجنسية نظرا لعيب خِلقيّ فيه ويكون من حقه اصلاح هويته الجنسية بعد توضح معالمها، ووضعية تحول الجنس ( le transsexualisme ) وهي صورة الشخص الذي تكون هويته الجنسية غير ملتبسة عند ولادته لكنه بمرور الزمن يحس بانجذابه للجنس الآخر وميله له فيكون من ناحية تركيبته الجنسية ذكرا لكنه يشعر انه ينتمي الى الاناث أو العكس. ورأت المحكمة ان تغيير الحالة المدنية يكون جائزا في الصورة الاولى وغير مقبول في الثانية.

ومع ذلك فقد كان للمحكمة الابتدائية رأيا آخر مؤخّرا، اذ طرح عليها مجددا السؤال المتعلق بمعرفة إن كان باستطاعة الشخص الذي يعمد اراديا الى تغيير هويته الجنسية بفضل التدخل الجراحي، ان يطلب تحوير عناصر حالته المدنية؟ وكان جواب المحكمة هذه المرة بالقبول . وفعلا فقد قضت هذه المحكمة بتاريخ 9 جويلية 2018 بتغيير جنس المدعية واعتبار ها من جنس الذكور عوضا عن جنس الاناث وتغيير اسمها من "لينا" الى "ريان" والاذن لضابط الحالة المدنية بالتنصيص على ذلك برسم الولادة. وأسست المحكمة موقفها على فكرة "الضرورة" المستمدة من القاعدة الاصولية القائلة بأن "الضرورات تبيح المحضورات"، إذ لاحظت ان المريضة القائمة بالدعوى قد بذلت منذ ان كان عمرها اثني عشر سنة كل ما في وسعها للتكيف مع حالتها الجنسية الا انها اصيبت بانهيار حينما ظهرت عليها علامات البلوغ وعجزت عن العلاج النفسي وانتهى بها المطاف الى محاولة الانتحار. وتقتضي الضرورة في رأي المحكمة المحافظة على حياة المدعية وتفادي الضرر الناتج عن محاولتها الانتحار  مستنتجة أن اقدامها على اجراء تدخل جراحي لإزالة زوائد الانوثة الظاهرة على جسدها هو امر مشروع ومبرر ولا مانع على هذا الاساس من قبول طلبها تغيير حالتها المدنية.

 

lundi 19 octobre 2020

نظرية الحق

القسم الثاني : الحقوق غير المالية:

الحقوق غير المالية وتسمى أيضا حقوق الشخصية (Droits de la personnalité) أو الحقوق الذاتية (Droits subjectifs)، هي الحقوق التي تمنح الى الانسان بوصفه انسانا وتهدف الى حماية شخصه ووجوده. ولذلك يطلق عليها الفلاسفة اسم الحقوق الطبيعية (Les droits naturels) او الحقوق الثابتة للإنسان (Les droits innées). ويلاحظ في هذه الحقوق انه بقدر ما تتقدم الحضارة الإنسانية بقدر ما يزداد تطورها وتدعيمها وحمايتها سواء عن طريق القوانين الوطنية أو بموجب المعاهدات والمواثيق الدولية.

وتتميز هذه الحقوق بعدة خصائص تفرّقها عن الصنف الآخر من الحقوق، أي الحقوق المالية. ومن أبرز هذه الخصائص، ما يلي:

أولا - انها حقوق لا تقوّم بالمال. أي انها لا تعتبر أموالا ولا تقدّر ما تقدّر به الأشياء والمكاسب، أي النقود. لكن إذا كانت الحقوق غير المالية غير قابلة للتقدير، فلا يعني ذلك ان المساس بها او الاضرار بأصحابها لا يستوجب التعويض النقدي. فقد أقر القانون في عدة نصوص لمن وقع الاعتداء عليه عمدا او خطأ ان يطلب تعويضه عن الضرر الذي أصابه ماديا أوأدبيا. وهذا ما تقرر صراحة في الفصلين 82 و83 م ا ع الذين تضمنا ان من تسبب في ضرر غيره بلا وجه قانوني عن قصد (الفصل82) او عن غير قصد (الفصل 83) وسواء أكان الضرر حسيا او معنويا فهو مسؤول عن فعله وعليه جبر الضرر الذي احدثه.

ثانيا - هي حقوق غير قابلة للاتفاق على منع ممارستها أو للتقييد او الحد منها . وهذا ما أقره صراحة الفصل 118 م ا ع بقوله: "كل شرط من شأنه ان يمنع او يقيد على انسان تعاطى ماله من الحقوق البشرية كحق التزوّج او مباشرة حقوقه المدنية فانه باطل وبه يبطل العقد".

ثالثا - انها حقوق غير قابلة للتداول او التعامل بين الأحياء ولا للانتقال الى الورثة او الموصى لهم بموجب الوفاة. فالحق في الحياة لا يقبل البيع والشراء وكذا الحق في الكرامة الإنسانية او حق الانتخاب او حق ممارسة العمل السياسي او غيرها من الحقوق...

رابعا - هي حقوق لا تقبل العقلة والتنفيذ عليها عن طريق وسائل التنفيذ الجبري. وهذا ما أقره صراحة الفصل 306 فقرة 2 م ا ع الذي أقرّ صراحة منع ممارسة الدعوى غير المباشرة عندما يتعلق الامر بالحقوق الخاصة بذات المدين كحقوق الاب على ولده وحق السكنى والنفقة وكذلك الفصل 308 م ا ع الذي حجّر التنفيذ على الأشياء الشخصية للمدين كفراشه وملابسه ورسائله وأشيائه المقدسة.

خامسا – انها حقوق دائمة ولا تقبل السقوط او التقادم بمرور الزمن. فالحق في الاسم لا يسقط بعدم الاستعمال مهما طالت المدة. والحق في الجنسية لا يزول ولو اكتسب شخص جنسية أخرى. وكذا الحق في الكرامة وفي الحرمة الجسدية الذي تبقى حمايته قائمة مهما طال الزمن. وهو ما أكده الفصل 23 من الدستور بقوله: "تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم".

ولمّا كانت الحقوق غير المالية متعددة ومتنوعة وأبعد عن أيّ عدّ أو حصر، فإنه لا يسعنا إلاّ التعرض لأبرزها وخاصة منها ما يلي:

-        الحقوق المتعلقة بهوية الشخص (المبحث  الاول).

-        الحقوق المتعلقة بالكيان الجسدي للشخص (المبحث الثاني).

-        الحقوق المتعلقة بالكيان المعنوي للإنسان (المبحث الثالث).

المبحث الأول : الحقوق المتعلقة بهوية الشخص.

لكل شخص الحق في ان يتفرّد بذاته وتكون له هويته الخاصة التي تسمح بتمييزه عن غيره من الأشخاص. ويثبت هذا الحق للإنسان منذ ولادته مثلما أكّده الفصل 5 من مجلة حماية الطفل بقوله :"لكل طفل الحق في الهوية منذ ولادته". وتشمل الهوية أساسا الاسم واللقب العائلي (الفقرة الأولى) بالإضافة الى عناصر أخرى يضبطها القانون (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : الاسم واللقب.

يعتبر حق الانسان في ان يكون له اسم ولقب من الحقوق الذاتية الأساسية التي تمكّن من تعيينه ومعرفته وتمييزه عن غيره من الافراد. وتتأكد أهمية هذا الحق بالنظر الى تعدد النصوص والقوانين التي تنظمه وهي خاصة ما يلي:

- القانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في غرّة اوت 1957 المتعلق بتنظيم الحالة المدنية والنصوص المتمّمة له.

- القانون عدد 53 لسنة 1959 المؤرخ في 26 ماي 1959 المتعلق باللقب العائلي.

- القانون عدد 20 لسنة 1964المؤرخ في 28 ماي 1964 المتعلق بالسماح لبعض التونسيين بتغيير اللقب او الاسم.

- القانون عدد 75 لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 المتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين او مجهولي النسب والنصوص المتممة او المنقحة له.

- القانون عدد 31 لسنة 2001 المؤرخ في 29 مارس 2001 المتعلق بإحداث شهادة تطابق بين اللقب الأصلي واللقب المسند.

ومن هذه النصوص يتضح ان اسناد اسم ولقب الى الشخص هو أمر وجوبي لا مفرّ منه. وهذا ما أكده الفصل الأول من قانون 26 ماي 1959 المتعلق باللقب العائلي بقوله: "ينبغي على كل مواطن تونسي ان تكون له زيادة على اسمه او اسمائه لقب عائلي". كما يتبين بتصفح القوانين المذكورة اختلاف الأحكام المتعلقة بهذين العنصرين. ممّا يتجه معه تخصيص فقرة مستقلة لكلّ واحدة منها.

أ- احكام اللقب.

تتمحور هذه الاحكام حول مسألتين : اسناد اللقب من جهة (أولا) وخصائصه من جهة أخرى (ثانيا).

              أولا- اسناد اللقب.

يخضع إسناد اللقب إلى مبدإ يمكن ان تطرأ عليه بعض الاستثناءات.

              1/ المبدأ:

وهو أن الطفل الشرعي يكتسب وجوبا وبمجرد ولادته لقب أبيه تطبيقا لأحكام النسب الواردة بالفصل 68 وما بعده من مجلة الأحوال الشخصية وخاصة منها الفصل 71 الذي اقتضى أنه "إذا ولدت الزوجة لتمام ستة أشهر فأكثر سواء كان العقد صحيحا أو فاسدا يثبت نسب المولود من الزوج". وتسري نفس القاعدة على الطفل الخاضع لنظام الكفالة عملا بالفصل 6 من القانون عدد 27 لسنة 1958 المؤرخ في 4 مارس 1958 المتعلق بالولاية العمومية والكفالة والتبني والذي نصّ على أنه: " يحتفظ المكفول بجميع حقوقه الناتجة عن نسبه وبالأخص لقبه ....".

ويعتبر حمل لقب الأب بموجب النسب مبدأ مستقرّا في قانوننا منذ قديم الزمان ولم يقع العدول عنه إلى يومنا هذا، خلافا لما هو الحال في بلدان أخرى كفرنسا مثلا حيث ادخل المشرع الفرنسي مبدأ المساواة بين الوالدين في اسناد اللقب وأصبح بالإمكان أن يحمل الطفل لقب الاب أو لقب الام او الاثنين معا حسب اختيار الوالدين (قانون 4 مارس 2002).

ولقد سعى المشرع منذ صدور القانون المؤرخ في 26 ماي 1959 إلى إلزام كل مواطن تونسي بأن يقدم تصريحا بلقبه لدى الهياكل الرسمية المعنية. ويشترط في اللقب المصرح به الا يكون محل التباس أو سخرية أو منافيا للأخلاق الفاضلة أو ذو أصل غير عربي او كذلك من أسماء البلدان.   

              2/ الاستثناءات:

تشمل هذه الاستثناءات وضعيتين أساسيتين، الأولى قديمة والثانية مستحدثة:

         أما الوضعية الأولى، فقد جاء بها القانون عدد 53 لسنة 1959 المؤرخ في 26 ماي 1959 والذي صدر في فترة الاستقلال وأوجب "على كل تونسي أن يقدّم قبل غرّة ديسمبر 1959 تصريحا باللقب ... لمركز الشرطة أو الحرس الوطني الكائن بمقره" أو الى القنصلية التونسية إذا كان مقيما بالخارج.  ثم أضاف هذا القانون في فصليه السادس والسابع أنه تحدث بكل معتمدية لجنة مختصة تسمى اللجنة المحلية للقب العائلي، تتعهد بالبت في هذه التصريحات و"يمكن لها أن تسند وجوبا لقبا عائليا لكل شخص لم يمتثل لأحكام هذا القانون".

 وخلافا للمبدإ الذي يقضي بأن كل شخص يحمل وجوبا لقب والده، تولت هذه اللجنة إسناد ألقاب إلى أشخاص غير ألقابهم الأصلية. كما يبدو أن تطبيق هذا القانون لم يكن بالنجاعة المطلوبة مما نتجت عنه صعوبات بالنسبة للعديد من الأشخاص وخاصة منهم المقيمون بالخارج الذين تعسّر عليهم الحصول على حقوقهم (جرايات تقاعد، حقوق ميراث...) أو تجديد وثائقهم ( بطاقة إقامة، جواز سفر...) بسبب الاختلاف في اللقب بين الوثيقة الأصلية للحالة المدنية والوثيقة الناتجة عن أمر الاسناد المتعلق بالمصادقة على قرارات اللجنة.

ولتدارك هذه الصعوبات، صدر القانون عدد 31 لسنة 2001 المؤرخ في 29 مارس 2001 الذي أحدث شهادة تطابق بين اللقب الأصلي واللقب المسند تثبت تعلق اللقبين بنفس الشخص يسلمها قاضي الناحية بناء على طلب المعني بالأمر. وحدد القانون التنصيصات الوجوبية التي ينبغي أن تتضمنها هذه الشهادة والإجراءات المتبعة للحصول عليها.

               وأما الوضعية الثانية فتتعلق بالأطفال غير الشرعيين. وهم المولودون خارج إطار الزواج. ويطلق عليهم أيضا "الأطفال الطبيعيون". فمن المعروف أن هؤلاء يعيشون صعوبات نفسية واجتماعية جمة نتيجة عدم اكتمال هويتهم الذي يبرز من خلال الفراغات التي تترك في الوثائق المثبتة لهويتهم. ولمعالجة هذا الأمر وضمانا لحق كل شخص في الهوية صدرت في 9 نوفمبر مجلــة حمايــة الطفل، كما سنّ المشرع القانون عدد 75 لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 المتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين او مجهولي النسب المتمم والمنقح بقانون 7 جويلية 2003.وقد كرس هذا القانون جملة من الأحكام والمبادئ من أهمها إمكانية إثبات أبوة الطفل بالوسائل العلمية، وخاصة عن طريق التحليل الجيني، وكذلك إلزام الأم الحاضنة لابنها القاصر ومجهول النسب بأن تختار له إسما وأن تصرح بولادته طبق ما ورد في قانون الحالة المدنية. كما يسمح القانون بإتمام عناصر هوية الطفل ولو افتراضيا في صورة عدم التوصل إلى إثبات الأبوة الحقيقية وذلك بالتوجه إلى القضاء قصد طلب اسناد لقب الى الطفل مع بقية عناصر الهوية  ( اسم أم ولقبها، واسم اب ولقبه وسم جد ولقبه.......).  وتسند المحكمة اللقب العائلي للطفل المهمل أو مجهول النسب بمقتضى إذن او حكم  حسب الحالات الآتية:

v   بطلب من الام الحاضنة التي لها أن تلتمس اسناد لقبها العائلي وبقية عناصر الهوية الافتراضية لابنها القاصر مجهول النسب او لقب الاب ان كان او اصبح معروفا (إقرار، شهادة الشهود، تحليل جيني).

v   من الولي العمومي او النيابة العمومية في صورة عدم وجود طلب من اهل الطفل المهمل او مجهول النسب .ويمكن لهذين الهيكلين السعي لطلب اسناد لقب الام ان كانت هويتها معروفة وبقية عناصر الهوية الافتراضية عند الاقتضاء.

v   من المعني بالأمر نفسه بعد أن يصبح رشيدا حيث يمكنه أن يقدم مطلبا الى رئيس المحكمة الابتدائية لإسناده كامل عناصر الهوية الحقيقية او الافتراضية.

 وربما يجوز في هذا السياق، التفكير في إضافة استثناء آخر يتعلق بالمرأة المتزوجة. فهل يعتبر الزواج موجبا لتغيير لقبها الأصلي وإسنادها لقب زوجها؟

إذا عدنا إلى القانون الفرنسي، يظهر أن هذا الأمر جائز بناء على قاعدة عرفية قديمة. مع العلم بأن اكتساب المرأة لقب زوجها هو حق ممنوح لها وليس واجبا مفروضا عليها.

ولا يخفى أنه في تونس، وقع التأثر بهذه العادة وأصبح من الجائز  للزوجة استعمال لقب زوجها في معاملاتها اليومية. ومع ذلك فالأمر يبقى اختياريا لا إجباريا.

 وتجدر الإشارة الى أن الفصل 2  من قانون 22 مارس 1993 قد أقر وجوب التنصيص في بطاقة التعريف الوطنية على لقب الزوج ضمن العناصر المحددة لهوية الزوجة. لكن هذا التنصيص يتم الى جانب اللقب الأصلي للزوجة على سبيل زيادة تدقيق الهوية لا أكثر ولا أقل.

ثانيا – خصائص اللقب.

إن أبرز خاصية تميز اللقب هي عدم قابليته للتغيير الإرادي والاختياري من قبل صاحبه. ويعبّر عن هذه الخاصية بالفرنسية بما يلي: "Le principe de l’immutabilité du nom" . وأساس ذلك هو تفادي التلاعب بالهويات لأغراض مشبوهة او غير قانونية باعتبار ان الهوية هي وسيلة إدارية لتحديد الأشخاص ومعرفتهم وتفادي الخلط بينهم. ولذلك فالأصل في القانون التونسي على غرار العديد من الأنظمة المقارنة، هو عدم السماح لأحد باستبدال لقبه بلقب آخر حسب مشيئته اللهم إلا إذا تعلق الأمر بشخص اكتسب الجنسية التونسية حيث يجوز طلب تغيير لقبه الأصلي عملا بالفصل الأول من قانون 28 ماي 1964 المتعلق بالسماح لبعض التونسيين بتغيير اللقب أو الاسم.             

ولئن كان هذا الاستثناء لا يطرح صعوبة باعتباره مقررا بصريح النص، إلا ان هناك وضعيتان قابلتان للنقاش، تتعلق الأولى بصورة اللقب الذي يكون محل التباس أو سخرية أو منافيا للأخلاق الفاضلة بينما تتصل الثانية بفرضية الرجوع في التبني.

 أما في الصورة الأولى، فيبدو طلب تغيير اللقب أمرا جائزا استنتاجا من الفصل الرابع من قانون 26 ماي 1959 وقياسا على إمكانية التماس تبديل الإسم لنفس الأسباب وفقا لمقتضيات الفصل 2 من قانون 28 ماي 1964.

 وأما في الصورة الثانية، فغني عن التذكير بأنه خلافا للطفل المكفول الذي يحافظ على هويته الاصلية ولا مجال لتغييرها ، فان الطفل المتبنى يمكن تغيير اسمه ولقبه واسناده اسما جديدا ولقب المتبني وذلك تطبيقا للفصل 14 من قانون 4 مارس 1958 المتعلق بالولاية العمومية والكفالة والتبني. والسؤال المطروح هو  الآتي: هل يجوز  للمتبنى في صورة الرجوع في التبني، أن يسترجع لقبه الاصلي؟

جوابا عن هذا السؤال ذهبت محكمة الاستئناف بالمنستير في قرارها الصادر بتاريخ 9 جانفي 1986 تحت عدد 145، إلى أنه لا مانع من رجوع المتبنى الى هويته الاصلية واسترداد اسمه ولقبه الأصليين المستمدين من ابويه الحقيقيين. واسست المحكمة هذا الموقف على عدة اعتبارات تتمحور أساسا فيما يلي:

- ضرورة سدّ الفراغ التشريعي باعتماد قاعدة التيسير.

- إمكانية الرجوع في التبني رغم غياب النص قياسا على قانون المصدر أي القانون الفرنسي.

- نظرية توازي الصيغ والشكليات.

- مراعاة مصلحة المتبنى والمتبنيين والابوين الأصليين.

ومن الخصائص الأخرى التي تميّز اللّقب:

 عدم القابلية للتقادم : بمعنى أن عدم استعمال اللقب مدّة طويلة  واعتماد لقب آخر غير اللقب الأصلي المنصوص عليه في دفاتر الحالة المدنية لا يؤدي الى اكتساب لقب جديد (تقادم مكسب) وفقدان اللقب الأصلي (تقادم مسقط).

 عدم القابلية للتعامل :  والمقصود أنه لا يمكن ان يكون اللقب موضوع بيع او شراء او أي نوع من أنواع التصرف.

لكن ذلك لا يمنع في إطار  المادة التجارية من  إمكانية استعمال لقب الشخص كاسم اجتماعي (اسم شركة) أو كعلامة تجارية (Marque). وفي مثل هذه الحالات يمكن بصورة استثنائية أن يكون اللقب محلا لمعاملات تجارية.

 قابلية اللقب للحماية القانونية: وفعلا فاذا رجعنا الى القانون المقارن نجد العديد من التشريعات تضع نصوصا صريحة تقرر من خلالها حماية مبدئية للاسم واللقب. من ذلك القانون المدني المصري والقانون المدني الإيطالي الذين تضمنا أحكاما تخول لمن تضرر من الاعتداء على اسمه أو لقبه حق الرجوع بالتعويض ضد المتسبب في الضرر.

اما في القانون التونسي فلا توجد نصوص عامة مماثلة وانما بعض التطبيقات الخاصة في بعض الصور. من بينها مثلا القانون عدد 36 لسنة 1994 المؤرخ في 24  فيفري 1994 المتعلق بالملكية الأدبية والفنية المنقح بمقتضى القانون عدد 33 لسنة 2009 المؤرخ في 23 جوان  2009 الذي نص على ضرورة حماية اسم المؤلف والقانون الأساسي عدد 63  لسنة 2004 المؤرخ في 27 جويلية 2004 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية. كما يشار الى الفصل 2 فقرة 2 من قانون 28 أكتوبر 1998 الذي أقر أنه : "يخوّل للغير الذي لحقه ضرر فادح ومباشر سواء من جراء اسناد كامل عناصر الهوية عدا الاسم او من جراء اسناد بعضها الى مجهول النسب ان يرفع الأمر الى رئيس المحكمة الابتدائية لطلب التشطيب". ويثبت هذا الحق خاصة اذا كان اللقب المسند تابعا لشخص معروف او مشهور . وهو ما أكده الفصل 4 مكرر من القانون الذي اقتضى : "يحجر استعمال أسماء وألقاب المشاهير والأعلام من الأحياء والأموات كعناصر لهويتهم".

وخارج هذه النصوص الخاصة يمكن للمتضرر في قانوننا، طلب حماية لقبه عملا بالقواعد العامة للمسؤولية المدنية التي تقضي بضرورة عدم الحاق الضرر بالغير.ر  

dimanche 11 octobre 2020

درس السنة الأولى حقوق: نظرية الحق

 النظرية العامة للحق

  
تقديم :
جرت العادة لدى أساتذة القانون وشرّاحه أن يتولّوا في اطار التمهيد للدراسات القانونية التمييز بين مفهومين أساسيين وهما : القانون من جهة والحق من جهة أخرى. 
ويبدو هذا التقسيم منطقيا. فالقانون هو مجموع القواعد السلوكية التي يخضع لها الافراد في المجتمع والتي تنظم مختلف العلاقات بينهم. ويعكس هذا التعريف أهمية القانون في حياتنا الاجتماعية. فحيث يوجد القانون يوجد المجتمع وحيث يوجد المجتمع يوجد القانون. ولا بد لكل مجتمع انساني من قانون يضعه لنفسه ويسير على قواعده واحكامه. وبهذا المعنى يعتبر القانون شرطا ضروريا لوجود المجتمعات البشرية ولبقائها ونموها وازدهارها ولمنع اعتداء الافراد بعضهم على بعض. فلا يمكن ان يتحقق التعايش السلمي بين الافراد إذا لم تكن هناك قواعد تحدد لهم ما يجب فعله وما ينبغي تركه وما يسمح به به وما لا يسمح به. لا بل ان تقدم المجتمعات الإنسانية وتحضرها، يقاس اليوم بمدى خضوعها واحترامها للقوانين التي تسنّها. وتسمى الدولة التي تكون فيها كلمة القانون هي العليا ويحترم فيها كل من الحاكم والمحكوم نصوص القانون: "دولة قانون" «Etat de Droit ».
 ولمفهوم "القانون" ارتباط وثيق بفكرة "الحق". والمقصود بالحق عموما، هو ما يتوفر للأشخاص في المجتمع من صلاحيات يتمتعون بها ويمارسونها طبق القانون كحق الملكية مثلا والحق في الحرمة الجسدية وحق التقاضي والحق في الحياة وفي المساواة والحق في الكرامة البشرية إضافة الى مختلف الحريات الفردية والجماعية التي تضمّن الدستور التونسي أهمها. غير ان الحق لا يكون له وجود الا إذا اقره القانون. فما لا يعترف به القانون او يكون ممنوعا قانونا لا يعتبر حقا. ومن المعروف أن مفهوم الحق لا ينفصل عن فكرة الواجب، أي ما يجب على الفرد فعله وما ينبغي عليه تركه. ويفرض القانون على الأشخاص احترام الواجبات المحمولة عليهم في المجتمع وعدم المساس بما لغيرهم من حقوق.
ولا بد من الإشارة من باب التدقيق الاصطلاحي، ان التفريق بين مصطلحي القانون والحق في اللغة العربية هو امر سهل باعتبار اختلاف المفهومين صياغة ومضمونا. اما في اللغة الفرنسية، فتدق التفرقة لان عبارة "Droit" تطلق في آن واحد على مفهومي القانون والحق ولها بذلك معنيان: فهي تدل من جهة على مجموع القواعد السلوكية التي تنظم العلاقات في المجتمع. وهذا هو القانون. وهي من جهة أخرى تشير الى ما يمنحه القانون الى الافراد من سلطات وصلاحيات وامتيازات. وهذه هي الحقوق. وتسهيلا للتمييز بين المعنيين، يضاففي اللغة الفرنسية أحيانا الى مصطلح « Droit » صفة « Objectif » فيقال" Droit Objectif" (قانون موضوعي) للدلالة على معنى القانون او القاعدة القانونية. وتضاف أحيانا أخرى عبارة « Subjectif » فيقال « Droit Subjectif » (حق ذاتي) للإشارة الى فكرة الحق.
والملاحظ بالرجوع الى كتب القانون ان الشراح او ما يطلق عليه "الفقه" « La doctrine » لم يستقروا على تعريف « Définition »  موحد لمعنى "الحق" ، اذ هناك عموما ثلاثة اتجاهات و نظريات في هذا الصدد نعرضها تباعا:
1/ النظرية الشخصية  « La Théorie Personnelle » :
وتعرف أيضا بنظرية الإرادة « La Théorie de la volonté ». ويرى أصحابها ان إرادة الانسان صاحب الحق هي العنصر الأساسي في تحديد مفهومه. وعليه، فهم يعرّفون الحق بانه قدرة او سلطة يمنحها القانون لإرادة الفرد لممارسة صلاحيات معينة. ومثال ذلك حق الملكية الذي هو بتعريفه سلطة للشخص على شيء يمكن له بمقتضاها استعماله واستغلاله والتصرف فيه حسب ارادته وفي نطاق القانون (الفصل 17 من مجلة الحقوق العينية). ومثال ذلك أيضا، الحق الشخصي للدائن الذي هو سلطة يمنحها القانون له، يمكنه بمقتضاها مطالبة مدينه بالوفاء بدينه واجباره على ذلك في صورة مماطلته عن طريق الوسائل المتاحة قانونا.

2/النظرية الموضوعية « La théorie objective » :
ويطلق عليها أيضا نظرية المصلحة « La théorie de l’intérêt ». وتنعت هذه النظرية بأنها موضوعية، لأنها لا تركز على أصحاب الحق بقدر موضوعه، أي الغاية التي يحققها لهؤلاء. فلكل حق غاية محددة يهدف اليها. وتتمثل في تحقيق منفعة او مصلحة لفائدة الفرد يضفي عليها القانون حمايته عن طريق الدعوى القضائية. وهذه المصلحة يمكن ان تكون مادية كحق الضحية في مطالبة المعتدي بالتعويض لها عن الاضرار البدنية أو المالية التي أصابتها من جراء فعله. ويمكن ان تكون المصلحة معنوية كالحق في الصورة وحرية المعتقد والحرية الفكرية. وانطلاقا من هذه الاعتبارات يعرف أصحاب النظرية الموضوعية الحق بانــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه    "مصلحة يحميها القانون"                « Un intérêt juridiquement protégé ».
 لكن كلا من النظريتين الشخصية والموضوعية كانتا محلا للنقد من قبل العديد من فقهاء القانون، مما أدى الى بروز نظرية حديثة مختلطة.

3/ النظرية الحديثة او المختلطة « La théorie mixte »: 
تسعى هذه النظرية الى إيجاد تعريف وسط يوفق بين النظريتين السابقتين القائمتين على فكرتي الإرادة والمصلحة. ويرى أصحاب هذا الاتجاه ان الحق هو في الآن ذاته قدرة ارادية للفرد ومصلحة يضمنها القانون. ومن بين التعريفات المقترحة من هؤلاء ما ذهب اليه الأستاذ هنري كابيتان Henri Capitant الذي اعتبر ان الحق هو "مصلحة مادية او أدبية يحميها القانون بتخويل صاحبها سلطة القيام بالأعمال الضرورية لتحقيقها". وهناك أيضا من اعتبر ان "الحق سلطة يقررها القانون لشخص معين يستطيع بمقتضاها القيام بأعمال معينة تحقيقا لمصلحة يقرها القانون".
على انه مهما اختلفت الاتجاهات وتنوعت التعريفات، فالثابت ان فكرة الحق تفترض توفر ثلاثة عناصر أساسية :
- صاحب الحق أي الشخص الذي يتمتع به ويمارسه.
- موضوع الحق أي المنفعة او المصلحة التي يحققها لصاحبه.
- الحماية القانونية للحق، باعتبار انه لا يمكن ان يوجد حق الا إذا أباحه القانون ووفر له ما يلزم من وسائل لحمايته.
- ويقر القانون للأشخاص حقوقا كثيرة لا يمكن عدها او حصرها. ويهدف هذا الدرس الى تمكين الطالب من الوقوف على القواعد الأساسية والمبادئ الكبرى التي تحكم الحق من خلال التعرض الى مختلف أصنافه وأقسامه (الجزء الأول) مرورا بأصحابه (الجزء الثاني) ووصولا الى الاحكام المنظمة لكيفية إثباته أمام القضاء سعيا لتوفير ما يقتضيه من حماية قانونية (الجزء الثالث).
- الجزء الأول: أقسام الحق.
- الجزء الثاني: أصحاب الحق.
- الجزء الثالث: إثبات الحق.

الجزء الأول: أقسام الحق.
يمكن تقسيم الحقوق اما بالرجوع الى موضوعها (الباب الأول) او اعتمادا على مصدرها (الباب الثاني).

الباب الأول: تقسيم الحقوق اعتمادا على موضوعها.
تنقسم الحقوق حسب موضوعها الى صنفين: حقوق ذات قيمة مالية يمكن التصرف فيها بسائر التصرفات القانونية: وتسمى حقوقا مالية او كذلك حقوقا تابعة للذمة المالية (Droits Patrimoniaux) (القسم الأول). وحقوق مرتبطة بذات الانسان ومقوماته المادية والمعنوية ولا يمكن تقييمها بالمال ولا التعامل فيها. وتسمى حقوقا غير مالية او حقوقا خارجة عن الذمة المالية « Droits extra patrimoniaux » (القسم الثاني).

القسم الأول : الحقوق المالية .
الحقوق المالية هي الحقوق القابلة للتعامل بين الافراد ومن شأنها ان تكون ذات قيمة نقدية. ويصفها بعض الشراح بحقوق الذمة المالية لأنها تكوّن الجانب الإيجابي من الذمة المالية للشخص (L’actif).
ومن هذا التعريف يتبين ان الحقوق المالية تتميز بالخصائص التالية :
- أنها قابلة للإحالة بين الاحياء عن طريق مختلف التصرفات القانونية من بيع وشراء ومعاوضة وهبة...
- أنها قابلة للانتقال بسبب الوفاة عن طريق الميراث الى الورثة.
- انها قابلة للتقادم بمرور الزمن بنوعيه المسقط او المكسب.
- انها قابلة للتنفيذ عليها عن طريق العقلة والبيع الجبري بسعي من الدائن وذلك في صورة عدم وفاء مدينه بالالتزام الذي يتحمله نحوه.


قابلة للإحالة 
قابلة للانتقال
الحقوق المالية            قابلة للتقادم 
قابلة للتنفيذ
ويتجه، قبل التعرض الى مختلف الحقوق العينية (المبحث الثاني)، ابداء بعض التوضيحات الضرورية حول مفهوم الذمة المالية (المبحث الاول).

المبحث الأول: مفهوم الذمة المالية.
يطلق مصطلح الذمة المالية في اللغة المتداولة عادة على ما يمتلكه الأشخاص من أشياء وثروات. اما في لغة القانون فالمقصود بالذمة المالية هو مجموع ما للشخص وما عليه من حقوق والتزامات مالية حاضرة ومستقبلة.
ويترتب عن هذا التعريف ان الذمة المالية تتركب من جانبين:
- جانب إيجابي «L’actif» يشمل ما يثبت للشخص من حقوق مالية.
- وجانب سلبي «Le passif» يتمثل في مجموع الديون والالتزامات التي يتحملها الشخص نحو غيره.
ويمكن ان تفوق قيمة الجانب السلبي (الديون) قيمة الجانب الإيجابي (المكاسب) دون ان يؤدي ذلك الى اضمحلال الذمة المالية. ولهذا شبهها الشراح بوعاء «Enveloppe» تتداخل فيه حقوق الشخص والتزاماته. وهذه الحقوق والالتزامات قابلة للتغير باستمرار بالزيادة او النقصان. فيزول بعضها ويدخل بعضها الآخر ليحل محل غيرها دون ان يؤثر ذلك على وجود الذمة المالية التي تظل قائمة كوعاء قابل لأن يمتلئ وان يفرغ باستمرار.
وعلى غرار القانون الفرنسي، تتميز الذمة المالية في القانون التونسي بأنها مرتبطة أشد الارتباط بالشخصية القانونية. فهي المظهر المالي للشخصية. مما تنجر عنه النتائج التالية:

1/ لكل شخص ذمة مالية. وهو يتمتع بها حتى لو كان معدما لا يملك أي شيء او كان مفلسا وغارقا في الديون.
2/ لا تثبت الذمة المالية الا للأشخاص الطبيعيين او المعنويين الذين لهم شخصية قانونية. أما غيرهم من الكائنات (الحيوانات) او المجموعات القانونية الفاقدة للشخصية القانونية كالشركة المدنية مثلا أو تجمع الشركات (Le groupe de sociétés  )فلا ذمة مالية لها .
3/ تبقى الذمة المالية ببقاء الشخص وتزول بزواله.
4/ ليس للشخص الا ذمة مالية واحدة لا تتجزأ ولا تتعدد. وهو ما يعبّر عنه بوحدة الذمة المالية «L’unité du patrimoine» . ويؤدي هذا المبدأ الى تمكين الدائنين من تتبع جميع ما يملكه المدين من أشياء اقتضاء لديونهم. وهو ما أقره المشرع صراحة في الفصل 192 م ح ع بقوله: "مكاسب المدين ضمان لدائنيه".
فمثلا: اذا اعسر احد التجار وفاقت ديونه قيمة ما له من أموال، حقّ لدائنيه الذين نشأت ديونهم في إطار التعامل التجاري التنفيذ لا فقط على مكاسبه المخصصة لنشاطه التجاري (البضائع والتجهيزات والمعدات...) بل وكذلك على ممتلكاته الخاصة (منزله او سيارته او أثاث بيته... ). ولا يمكن للمدين هنا أن يلزم دائنيه التجار بحصر أعمال التتبع في المكاسب المخصصة لنشاطه التجارية وعزل ممتلكاته الأخرى عن مجال التنفيذ.
ويعتبر هذا المثال مدخلا لاستعراض مختلف أنواع الحقوق الداخلة في الذمة المالية.

المبحث الثاني : مختلف الحقوق المالية 
تنقسم الحقوق المالية بدورها الى حقوق عينية (الفقرة الأولى) وحقوق شخصية (الفقرة الثانية). ويضاف الى هذين المجموعتين صنف ثالث يدعى بالحقوق الفكرية (الفقرة الثالثة).

الفقرة الأولى : الحقوق العينية « Les droits réels » 
■تعريف : يعرّف الحق العيني بانه سلطة قانونية يمارسها شخص على شيء مادي قابل للتملك، تخوله الحصول على منافعه الاقتصادية سواء كليا ام جزئيا. ويسمى عينيا لأنه يتعلق بالعين،أي الشيء (La chose). ومن خصائصه انه يمنح لصاحبه استئثارا يحميه القانون ويجعل العلاقة بينه وبين محله (أي الشيء الذي يتسلط عليه الحق العيني) علاقة مباشرة دون واسطة أحد. ومثال ذلك المالك الذي له الحق في ممارسة ما يمنحه له حق الملكية من صلاحيات (استعمال واستغلال وتصرف) وحده دون تدخل أي شخص آخر.
وتتكون الحقوق العينية من صنفين : الحقوق العينية الاصلية من جهة والحقوق العينية التبعية من جهة أخرى.
■ أمّا الحقوق الاصلية فهي التي تقوم مستقلة بذاتها دون الاستناد الى حق آخر تتبعه او تضمنه. وتنقسم بدورها الى : حق الملكية باعتباره أكمل الحقوق العينية وأشملها. والحقوق المتفرعة عنه. واهمها: حق الانتفاع وحق الاستعمال وحق السكنى وحق الارتفاق . وقد ورد تعداد الحقوق العينية بنوعيها في الفصل 12 م ح ع.
■ واما الحقوق التبعية فهي لا تنشأ مستقلة وانما تكون تابعة لحق شخصي (دين) ضمانا لاستيفائه ومن هنا جاءت تسميتها "بالضمـــــــــــــــــــــــــــانات او التأمينــــــــــــــات العينية ".« Les garanties ou les suretés réelles » . وهي كما عددها الفصل 193 م ح ع الامتياز والرهن وحق الحبس.

على ان الحقوق العينية مهما تنوعت، فلها خصائص مشتركة أهمها ما يلي:
1/ الحق العيني هو حق مطلق، أي يحتج به ويعارض به جميع الأشخاص لحملهم على احترامه وعدم الاعتداء عليه بشرط التقيّد بالإجراءات والشكليات الضرورية لإشهاره.
2/ الحق العيني يخول لصاحبه ممارسة حق التتبع على العين تحت أي يد انتقل إليها لاستردادها واستحقاقها. وإذا تعلق الأمر بتأمين عيني فإن الدائن صاحب الضمان يمكنه التنفيذ على العين ولو بين يدي الغير الذي انتقلت إليه ملكيتها عملا بالفصل 270 م ح ع في صورة الرهن العقاري مثلا أو  الفصل 316 م اع في إطار حق الحبس.
3/ الحق العيني يمنح صاحبه حق الأفضلية على كافة المزاحمين له. وأبرز مثال على ذلك نجده في باب الرهن الذي عرّفه المشرع في الفصل 201 م ح ع بأنه الحق الذي يخول صاحبه استخلاص دينه بالأفضلية على بقية الدائنين.

الفقرة الثانية : الحقوق الشخصية « les droits personnels » 

تكوّن الحقوق الشخصية الطائفة الثانية من الحقوق المالية. والحق الشخصي هو سلطة قانونية يمكن بمقتضاها لشخص يدعى الدائن (Le créancier) مطالبة شخص آخر يسمى المدين (Le débiteur) بتنفيذ التزامه (L’obligation) سواء أكان موضوع هذا الالتزام إعطاء شيء « Donner » او القيام بعمل « Faire »  او الامتناع عن القيام بعمل « Ne pas faire ».

ويفضي هذا التعريف الى عدة نتائج أبرزها ما يلي:
أولا : ان الحق الشخصي هو رابطة بين شخصين، الدائن من جهة والمدين من جهة أخرى، خلافا للحق العيني الذي هو علاقة قانونية بين الشخص صاحب الحق والشيء او العين محل الحق. واذا نظرنا الى الحق الشخصي من جهة الدائن وجب الحديث عن حق الدائنية (Le droit  de créance) أي سلطة الدائن في مطالبة المدين بأداء ما التزام به وجبره على ذلك عن طريق الوسائل القانونية عند الاقتضاء. أما اذا وجّهنا النظر الى مركز المدين، فنتحدث عن "الالتزام" (L’obligation) أي الواجب الذي يتحمله المدين إزاء الدائن في أداء ما التزم به وخضوعه الى التنفيذ الجبري اذا امتنع عن الوفاء الارادي بما عليه.

ثانيا : ان الحق الشخصي يتكون من ثلاثة عناصر:
- طرفا الحق وهما الدائن والمدين. وقد يتعدد الدائنون او المدينون أحيانا حسب ظروف التعامل.
- محل الحق الشخصي وهو الواجب الإيجابي (إعطاء شيء او عمل شيء) او السلبي (عدم العمل) الملقى على عاتق المدين.
- الحماية القانونية للحق الشخصي عن طريق الدعوى القضائية المتاحة للدائن ووسائل التنفيذ الجبري التي يمكن له ممارستها عن طريق عقلة وبيع مكاسب المدين واستخلاص دينه من ثمنها.

ثالثا : أن موضوع التزام المدين لا يخلو من أحد ثلاثة:
- اما إعطاء لشيء للدائن، مثل نقل ملكية المبيع من البائع الى المشتري.
- واما القيام بعمل، مثل تشييد بناء من قبل المقاول أو تسليم بضاعة من قبل البائع أو علاج مريض من لدن الطبيب...
- واما الامتناع عن عمل. ومثال ذلك التزام مشتري المحل التجاري بعدم منافسة البائع في تجارته او التزام الاجير بعدم العمل لدى احد منافسي مشغله السابق.

وانطلاقا من هذه العناصر والخصائص يتضح ان الحق الشخصي يختلف عن الحق العيني من عدة أوجه:
1/ هو حق نسبي لأنه لا يقوم الا بين طرفيه ولا يعارض به الغير تطبيقا للفصلين 240 و241 م ا ع. خلافا للحق العيني الذي يواجه به الكافة.
2/ الحق الشخصي لا يخول لصاحبه الا التنفيذ على المكاسب الموجودة في ذمة المدين ولا وجود فيه لحق تتبع.
3/ الحق الشخصي محكوم بمبدإ المساواة بين الدائنين عملا بالفصل 192 م ح ع (حق الضمان العام) خلافا للحق العيني الذي يمنح لصاحبه حق الأفضلية.

الفقرة الثالثة : الحقوق الفكرية

الحقوق الفكرية هي حقوق لها طبيعة مزدوجة، مالية وغير مالية. وهي لا تنسجم من التفرقة بين الحقوق العينية والحقوق الشخصية. ذلك انها لا تمارس ضد شخص معين (خلافا للحق الشخصي) ولا تتسلط على شيء مادي (خلافا للحق العيني). ولكنها تقترب من الحقوق المالية لأنها تشمل جانبا ماليا متمثلا في حق الاستغلال (Le monopole d’exploitation) المخول لصاحبها . مع أن هذا الالتقاء مع الحقوق المالية ليس مطلقا لان الحقوق الفكرية تتضمن جوانب أدبية ومعنوية غير مالية تتمثل خاصة في الابداعات التي ينتجها العقل من اعمال أدبية وفنية واختراعات وصور وتصاميم مستغلة في الميدان الصناعي والتجاري وهي عموما ما يلي:
- حقوق التأليف. وتشمل المصنفات الأدبية (روايات، قصائد شعرية ، مسرحيات...)
- الملكية الصناعية، التي تضم خاصة براءات الاختراع والعلامات التجارية والنماذج الصناعية.
وتوجد في القانون التونسي عدة نصوص تنظم الحقوق الفكرية وتحمي حقوق أصحابها. ومن هذه النصوص يتضح ان الحقوق الفكرية تتكون من جانب مالي يتمثل في حق المؤلف او المخترع او المنتج في استغلاله منتوجه الفكري والتصرف فيه. وجانب معنوي يبرز من خلال الحماية القانونية المقررة للفكر والابداع والابتكار.

ويبقى الآن أن نتناول بالدرس الحقوق غير المالية.