lundi 19 octobre 2020

نظرية الحق

القسم الثاني : الحقوق غير المالية:

الحقوق غير المالية وتسمى أيضا حقوق الشخصية (Droits de la personnalité) أو الحقوق الذاتية (Droits subjectifs)، هي الحقوق التي تمنح الى الانسان بوصفه انسانا وتهدف الى حماية شخصه ووجوده. ولذلك يطلق عليها الفلاسفة اسم الحقوق الطبيعية (Les droits naturels) او الحقوق الثابتة للإنسان (Les droits innées). ويلاحظ في هذه الحقوق انه بقدر ما تتقدم الحضارة الإنسانية بقدر ما يزداد تطورها وتدعيمها وحمايتها سواء عن طريق القوانين الوطنية أو بموجب المعاهدات والمواثيق الدولية.

وتتميز هذه الحقوق بعدة خصائص تفرّقها عن الصنف الآخر من الحقوق، أي الحقوق المالية. ومن أبرز هذه الخصائص، ما يلي:

أولا - انها حقوق لا تقوّم بالمال. أي انها لا تعتبر أموالا ولا تقدّر ما تقدّر به الأشياء والمكاسب، أي النقود. لكن إذا كانت الحقوق غير المالية غير قابلة للتقدير، فلا يعني ذلك ان المساس بها او الاضرار بأصحابها لا يستوجب التعويض النقدي. فقد أقر القانون في عدة نصوص لمن وقع الاعتداء عليه عمدا او خطأ ان يطلب تعويضه عن الضرر الذي أصابه ماديا أوأدبيا. وهذا ما تقرر صراحة في الفصلين 82 و83 م ا ع الذين تضمنا ان من تسبب في ضرر غيره بلا وجه قانوني عن قصد (الفصل82) او عن غير قصد (الفصل 83) وسواء أكان الضرر حسيا او معنويا فهو مسؤول عن فعله وعليه جبر الضرر الذي احدثه.

ثانيا - هي حقوق غير قابلة للاتفاق على منع ممارستها أو للتقييد او الحد منها . وهذا ما أقره صراحة الفصل 118 م ا ع بقوله: "كل شرط من شأنه ان يمنع او يقيد على انسان تعاطى ماله من الحقوق البشرية كحق التزوّج او مباشرة حقوقه المدنية فانه باطل وبه يبطل العقد".

ثالثا - انها حقوق غير قابلة للتداول او التعامل بين الأحياء ولا للانتقال الى الورثة او الموصى لهم بموجب الوفاة. فالحق في الحياة لا يقبل البيع والشراء وكذا الحق في الكرامة الإنسانية او حق الانتخاب او حق ممارسة العمل السياسي او غيرها من الحقوق...

رابعا - هي حقوق لا تقبل العقلة والتنفيذ عليها عن طريق وسائل التنفيذ الجبري. وهذا ما أقره صراحة الفصل 306 فقرة 2 م ا ع الذي أقرّ صراحة منع ممارسة الدعوى غير المباشرة عندما يتعلق الامر بالحقوق الخاصة بذات المدين كحقوق الاب على ولده وحق السكنى والنفقة وكذلك الفصل 308 م ا ع الذي حجّر التنفيذ على الأشياء الشخصية للمدين كفراشه وملابسه ورسائله وأشيائه المقدسة.

خامسا – انها حقوق دائمة ولا تقبل السقوط او التقادم بمرور الزمن. فالحق في الاسم لا يسقط بعدم الاستعمال مهما طالت المدة. والحق في الجنسية لا يزول ولو اكتسب شخص جنسية أخرى. وكذا الحق في الكرامة وفي الحرمة الجسدية الذي تبقى حمايته قائمة مهما طال الزمن. وهو ما أكده الفصل 23 من الدستور بقوله: "تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم".

ولمّا كانت الحقوق غير المالية متعددة ومتنوعة وأبعد عن أيّ عدّ أو حصر، فإنه لا يسعنا إلاّ التعرض لأبرزها وخاصة منها ما يلي:

-        الحقوق المتعلقة بهوية الشخص (المبحث  الاول).

-        الحقوق المتعلقة بالكيان الجسدي للشخص (المبحث الثاني).

-        الحقوق المتعلقة بالكيان المعنوي للإنسان (المبحث الثالث).

المبحث الأول : الحقوق المتعلقة بهوية الشخص.

لكل شخص الحق في ان يتفرّد بذاته وتكون له هويته الخاصة التي تسمح بتمييزه عن غيره من الأشخاص. ويثبت هذا الحق للإنسان منذ ولادته مثلما أكّده الفصل 5 من مجلة حماية الطفل بقوله :"لكل طفل الحق في الهوية منذ ولادته". وتشمل الهوية أساسا الاسم واللقب العائلي (الفقرة الأولى) بالإضافة الى عناصر أخرى يضبطها القانون (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : الاسم واللقب.

يعتبر حق الانسان في ان يكون له اسم ولقب من الحقوق الذاتية الأساسية التي تمكّن من تعيينه ومعرفته وتمييزه عن غيره من الافراد. وتتأكد أهمية هذا الحق بالنظر الى تعدد النصوص والقوانين التي تنظمه وهي خاصة ما يلي:

- القانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في غرّة اوت 1957 المتعلق بتنظيم الحالة المدنية والنصوص المتمّمة له.

- القانون عدد 53 لسنة 1959 المؤرخ في 26 ماي 1959 المتعلق باللقب العائلي.

- القانون عدد 20 لسنة 1964المؤرخ في 28 ماي 1964 المتعلق بالسماح لبعض التونسيين بتغيير اللقب او الاسم.

- القانون عدد 75 لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 المتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين او مجهولي النسب والنصوص المتممة او المنقحة له.

- القانون عدد 31 لسنة 2001 المؤرخ في 29 مارس 2001 المتعلق بإحداث شهادة تطابق بين اللقب الأصلي واللقب المسند.

ومن هذه النصوص يتضح ان اسناد اسم ولقب الى الشخص هو أمر وجوبي لا مفرّ منه. وهذا ما أكده الفصل الأول من قانون 26 ماي 1959 المتعلق باللقب العائلي بقوله: "ينبغي على كل مواطن تونسي ان تكون له زيادة على اسمه او اسمائه لقب عائلي". كما يتبين بتصفح القوانين المذكورة اختلاف الأحكام المتعلقة بهذين العنصرين. ممّا يتجه معه تخصيص فقرة مستقلة لكلّ واحدة منها.

أ- احكام اللقب.

تتمحور هذه الاحكام حول مسألتين : اسناد اللقب من جهة (أولا) وخصائصه من جهة أخرى (ثانيا).

              أولا- اسناد اللقب.

يخضع إسناد اللقب إلى مبدإ يمكن ان تطرأ عليه بعض الاستثناءات.

              1/ المبدأ:

وهو أن الطفل الشرعي يكتسب وجوبا وبمجرد ولادته لقب أبيه تطبيقا لأحكام النسب الواردة بالفصل 68 وما بعده من مجلة الأحوال الشخصية وخاصة منها الفصل 71 الذي اقتضى أنه "إذا ولدت الزوجة لتمام ستة أشهر فأكثر سواء كان العقد صحيحا أو فاسدا يثبت نسب المولود من الزوج". وتسري نفس القاعدة على الطفل الخاضع لنظام الكفالة عملا بالفصل 6 من القانون عدد 27 لسنة 1958 المؤرخ في 4 مارس 1958 المتعلق بالولاية العمومية والكفالة والتبني والذي نصّ على أنه: " يحتفظ المكفول بجميع حقوقه الناتجة عن نسبه وبالأخص لقبه ....".

ويعتبر حمل لقب الأب بموجب النسب مبدأ مستقرّا في قانوننا منذ قديم الزمان ولم يقع العدول عنه إلى يومنا هذا، خلافا لما هو الحال في بلدان أخرى كفرنسا مثلا حيث ادخل المشرع الفرنسي مبدأ المساواة بين الوالدين في اسناد اللقب وأصبح بالإمكان أن يحمل الطفل لقب الاب أو لقب الام او الاثنين معا حسب اختيار الوالدين (قانون 4 مارس 2002).

ولقد سعى المشرع منذ صدور القانون المؤرخ في 26 ماي 1959 إلى إلزام كل مواطن تونسي بأن يقدم تصريحا بلقبه لدى الهياكل الرسمية المعنية. ويشترط في اللقب المصرح به الا يكون محل التباس أو سخرية أو منافيا للأخلاق الفاضلة أو ذو أصل غير عربي او كذلك من أسماء البلدان.   

              2/ الاستثناءات:

تشمل هذه الاستثناءات وضعيتين أساسيتين، الأولى قديمة والثانية مستحدثة:

         أما الوضعية الأولى، فقد جاء بها القانون عدد 53 لسنة 1959 المؤرخ في 26 ماي 1959 والذي صدر في فترة الاستقلال وأوجب "على كل تونسي أن يقدّم قبل غرّة ديسمبر 1959 تصريحا باللقب ... لمركز الشرطة أو الحرس الوطني الكائن بمقره" أو الى القنصلية التونسية إذا كان مقيما بالخارج.  ثم أضاف هذا القانون في فصليه السادس والسابع أنه تحدث بكل معتمدية لجنة مختصة تسمى اللجنة المحلية للقب العائلي، تتعهد بالبت في هذه التصريحات و"يمكن لها أن تسند وجوبا لقبا عائليا لكل شخص لم يمتثل لأحكام هذا القانون".

 وخلافا للمبدإ الذي يقضي بأن كل شخص يحمل وجوبا لقب والده، تولت هذه اللجنة إسناد ألقاب إلى أشخاص غير ألقابهم الأصلية. كما يبدو أن تطبيق هذا القانون لم يكن بالنجاعة المطلوبة مما نتجت عنه صعوبات بالنسبة للعديد من الأشخاص وخاصة منهم المقيمون بالخارج الذين تعسّر عليهم الحصول على حقوقهم (جرايات تقاعد، حقوق ميراث...) أو تجديد وثائقهم ( بطاقة إقامة، جواز سفر...) بسبب الاختلاف في اللقب بين الوثيقة الأصلية للحالة المدنية والوثيقة الناتجة عن أمر الاسناد المتعلق بالمصادقة على قرارات اللجنة.

ولتدارك هذه الصعوبات، صدر القانون عدد 31 لسنة 2001 المؤرخ في 29 مارس 2001 الذي أحدث شهادة تطابق بين اللقب الأصلي واللقب المسند تثبت تعلق اللقبين بنفس الشخص يسلمها قاضي الناحية بناء على طلب المعني بالأمر. وحدد القانون التنصيصات الوجوبية التي ينبغي أن تتضمنها هذه الشهادة والإجراءات المتبعة للحصول عليها.

               وأما الوضعية الثانية فتتعلق بالأطفال غير الشرعيين. وهم المولودون خارج إطار الزواج. ويطلق عليهم أيضا "الأطفال الطبيعيون". فمن المعروف أن هؤلاء يعيشون صعوبات نفسية واجتماعية جمة نتيجة عدم اكتمال هويتهم الذي يبرز من خلال الفراغات التي تترك في الوثائق المثبتة لهويتهم. ولمعالجة هذا الأمر وضمانا لحق كل شخص في الهوية صدرت في 9 نوفمبر مجلــة حمايــة الطفل، كما سنّ المشرع القانون عدد 75 لسنة 1998 المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 المتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين او مجهولي النسب المتمم والمنقح بقانون 7 جويلية 2003.وقد كرس هذا القانون جملة من الأحكام والمبادئ من أهمها إمكانية إثبات أبوة الطفل بالوسائل العلمية، وخاصة عن طريق التحليل الجيني، وكذلك إلزام الأم الحاضنة لابنها القاصر ومجهول النسب بأن تختار له إسما وأن تصرح بولادته طبق ما ورد في قانون الحالة المدنية. كما يسمح القانون بإتمام عناصر هوية الطفل ولو افتراضيا في صورة عدم التوصل إلى إثبات الأبوة الحقيقية وذلك بالتوجه إلى القضاء قصد طلب اسناد لقب الى الطفل مع بقية عناصر الهوية  ( اسم أم ولقبها، واسم اب ولقبه وسم جد ولقبه.......).  وتسند المحكمة اللقب العائلي للطفل المهمل أو مجهول النسب بمقتضى إذن او حكم  حسب الحالات الآتية:

v   بطلب من الام الحاضنة التي لها أن تلتمس اسناد لقبها العائلي وبقية عناصر الهوية الافتراضية لابنها القاصر مجهول النسب او لقب الاب ان كان او اصبح معروفا (إقرار، شهادة الشهود، تحليل جيني).

v   من الولي العمومي او النيابة العمومية في صورة عدم وجود طلب من اهل الطفل المهمل او مجهول النسب .ويمكن لهذين الهيكلين السعي لطلب اسناد لقب الام ان كانت هويتها معروفة وبقية عناصر الهوية الافتراضية عند الاقتضاء.

v   من المعني بالأمر نفسه بعد أن يصبح رشيدا حيث يمكنه أن يقدم مطلبا الى رئيس المحكمة الابتدائية لإسناده كامل عناصر الهوية الحقيقية او الافتراضية.

 وربما يجوز في هذا السياق، التفكير في إضافة استثناء آخر يتعلق بالمرأة المتزوجة. فهل يعتبر الزواج موجبا لتغيير لقبها الأصلي وإسنادها لقب زوجها؟

إذا عدنا إلى القانون الفرنسي، يظهر أن هذا الأمر جائز بناء على قاعدة عرفية قديمة. مع العلم بأن اكتساب المرأة لقب زوجها هو حق ممنوح لها وليس واجبا مفروضا عليها.

ولا يخفى أنه في تونس، وقع التأثر بهذه العادة وأصبح من الجائز  للزوجة استعمال لقب زوجها في معاملاتها اليومية. ومع ذلك فالأمر يبقى اختياريا لا إجباريا.

 وتجدر الإشارة الى أن الفصل 2  من قانون 22 مارس 1993 قد أقر وجوب التنصيص في بطاقة التعريف الوطنية على لقب الزوج ضمن العناصر المحددة لهوية الزوجة. لكن هذا التنصيص يتم الى جانب اللقب الأصلي للزوجة على سبيل زيادة تدقيق الهوية لا أكثر ولا أقل.

ثانيا – خصائص اللقب.

إن أبرز خاصية تميز اللقب هي عدم قابليته للتغيير الإرادي والاختياري من قبل صاحبه. ويعبّر عن هذه الخاصية بالفرنسية بما يلي: "Le principe de l’immutabilité du nom" . وأساس ذلك هو تفادي التلاعب بالهويات لأغراض مشبوهة او غير قانونية باعتبار ان الهوية هي وسيلة إدارية لتحديد الأشخاص ومعرفتهم وتفادي الخلط بينهم. ولذلك فالأصل في القانون التونسي على غرار العديد من الأنظمة المقارنة، هو عدم السماح لأحد باستبدال لقبه بلقب آخر حسب مشيئته اللهم إلا إذا تعلق الأمر بشخص اكتسب الجنسية التونسية حيث يجوز طلب تغيير لقبه الأصلي عملا بالفصل الأول من قانون 28 ماي 1964 المتعلق بالسماح لبعض التونسيين بتغيير اللقب أو الاسم.             

ولئن كان هذا الاستثناء لا يطرح صعوبة باعتباره مقررا بصريح النص، إلا ان هناك وضعيتان قابلتان للنقاش، تتعلق الأولى بصورة اللقب الذي يكون محل التباس أو سخرية أو منافيا للأخلاق الفاضلة بينما تتصل الثانية بفرضية الرجوع في التبني.

 أما في الصورة الأولى، فيبدو طلب تغيير اللقب أمرا جائزا استنتاجا من الفصل الرابع من قانون 26 ماي 1959 وقياسا على إمكانية التماس تبديل الإسم لنفس الأسباب وفقا لمقتضيات الفصل 2 من قانون 28 ماي 1964.

 وأما في الصورة الثانية، فغني عن التذكير بأنه خلافا للطفل المكفول الذي يحافظ على هويته الاصلية ولا مجال لتغييرها ، فان الطفل المتبنى يمكن تغيير اسمه ولقبه واسناده اسما جديدا ولقب المتبني وذلك تطبيقا للفصل 14 من قانون 4 مارس 1958 المتعلق بالولاية العمومية والكفالة والتبني. والسؤال المطروح هو  الآتي: هل يجوز  للمتبنى في صورة الرجوع في التبني، أن يسترجع لقبه الاصلي؟

جوابا عن هذا السؤال ذهبت محكمة الاستئناف بالمنستير في قرارها الصادر بتاريخ 9 جانفي 1986 تحت عدد 145، إلى أنه لا مانع من رجوع المتبنى الى هويته الاصلية واسترداد اسمه ولقبه الأصليين المستمدين من ابويه الحقيقيين. واسست المحكمة هذا الموقف على عدة اعتبارات تتمحور أساسا فيما يلي:

- ضرورة سدّ الفراغ التشريعي باعتماد قاعدة التيسير.

- إمكانية الرجوع في التبني رغم غياب النص قياسا على قانون المصدر أي القانون الفرنسي.

- نظرية توازي الصيغ والشكليات.

- مراعاة مصلحة المتبنى والمتبنيين والابوين الأصليين.

ومن الخصائص الأخرى التي تميّز اللّقب:

 عدم القابلية للتقادم : بمعنى أن عدم استعمال اللقب مدّة طويلة  واعتماد لقب آخر غير اللقب الأصلي المنصوص عليه في دفاتر الحالة المدنية لا يؤدي الى اكتساب لقب جديد (تقادم مكسب) وفقدان اللقب الأصلي (تقادم مسقط).

 عدم القابلية للتعامل :  والمقصود أنه لا يمكن ان يكون اللقب موضوع بيع او شراء او أي نوع من أنواع التصرف.

لكن ذلك لا يمنع في إطار  المادة التجارية من  إمكانية استعمال لقب الشخص كاسم اجتماعي (اسم شركة) أو كعلامة تجارية (Marque). وفي مثل هذه الحالات يمكن بصورة استثنائية أن يكون اللقب محلا لمعاملات تجارية.

 قابلية اللقب للحماية القانونية: وفعلا فاذا رجعنا الى القانون المقارن نجد العديد من التشريعات تضع نصوصا صريحة تقرر من خلالها حماية مبدئية للاسم واللقب. من ذلك القانون المدني المصري والقانون المدني الإيطالي الذين تضمنا أحكاما تخول لمن تضرر من الاعتداء على اسمه أو لقبه حق الرجوع بالتعويض ضد المتسبب في الضرر.

اما في القانون التونسي فلا توجد نصوص عامة مماثلة وانما بعض التطبيقات الخاصة في بعض الصور. من بينها مثلا القانون عدد 36 لسنة 1994 المؤرخ في 24  فيفري 1994 المتعلق بالملكية الأدبية والفنية المنقح بمقتضى القانون عدد 33 لسنة 2009 المؤرخ في 23 جوان  2009 الذي نص على ضرورة حماية اسم المؤلف والقانون الأساسي عدد 63  لسنة 2004 المؤرخ في 27 جويلية 2004 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية. كما يشار الى الفصل 2 فقرة 2 من قانون 28 أكتوبر 1998 الذي أقر أنه : "يخوّل للغير الذي لحقه ضرر فادح ومباشر سواء من جراء اسناد كامل عناصر الهوية عدا الاسم او من جراء اسناد بعضها الى مجهول النسب ان يرفع الأمر الى رئيس المحكمة الابتدائية لطلب التشطيب". ويثبت هذا الحق خاصة اذا كان اللقب المسند تابعا لشخص معروف او مشهور . وهو ما أكده الفصل 4 مكرر من القانون الذي اقتضى : "يحجر استعمال أسماء وألقاب المشاهير والأعلام من الأحياء والأموات كعناصر لهويتهم".

وخارج هذه النصوص الخاصة يمكن للمتضرر في قانوننا، طلب حماية لقبه عملا بالقواعد العامة للمسؤولية المدنية التي تقضي بضرورة عدم الحاق الضرر بالغير.ر  

dimanche 11 octobre 2020

درس السنة الأولى حقوق: نظرية الحق

 النظرية العامة للحق

  
تقديم :
جرت العادة لدى أساتذة القانون وشرّاحه أن يتولّوا في اطار التمهيد للدراسات القانونية التمييز بين مفهومين أساسيين وهما : القانون من جهة والحق من جهة أخرى. 
ويبدو هذا التقسيم منطقيا. فالقانون هو مجموع القواعد السلوكية التي يخضع لها الافراد في المجتمع والتي تنظم مختلف العلاقات بينهم. ويعكس هذا التعريف أهمية القانون في حياتنا الاجتماعية. فحيث يوجد القانون يوجد المجتمع وحيث يوجد المجتمع يوجد القانون. ولا بد لكل مجتمع انساني من قانون يضعه لنفسه ويسير على قواعده واحكامه. وبهذا المعنى يعتبر القانون شرطا ضروريا لوجود المجتمعات البشرية ولبقائها ونموها وازدهارها ولمنع اعتداء الافراد بعضهم على بعض. فلا يمكن ان يتحقق التعايش السلمي بين الافراد إذا لم تكن هناك قواعد تحدد لهم ما يجب فعله وما ينبغي تركه وما يسمح به به وما لا يسمح به. لا بل ان تقدم المجتمعات الإنسانية وتحضرها، يقاس اليوم بمدى خضوعها واحترامها للقوانين التي تسنّها. وتسمى الدولة التي تكون فيها كلمة القانون هي العليا ويحترم فيها كل من الحاكم والمحكوم نصوص القانون: "دولة قانون" «Etat de Droit ».
 ولمفهوم "القانون" ارتباط وثيق بفكرة "الحق". والمقصود بالحق عموما، هو ما يتوفر للأشخاص في المجتمع من صلاحيات يتمتعون بها ويمارسونها طبق القانون كحق الملكية مثلا والحق في الحرمة الجسدية وحق التقاضي والحق في الحياة وفي المساواة والحق في الكرامة البشرية إضافة الى مختلف الحريات الفردية والجماعية التي تضمّن الدستور التونسي أهمها. غير ان الحق لا يكون له وجود الا إذا اقره القانون. فما لا يعترف به القانون او يكون ممنوعا قانونا لا يعتبر حقا. ومن المعروف أن مفهوم الحق لا ينفصل عن فكرة الواجب، أي ما يجب على الفرد فعله وما ينبغي عليه تركه. ويفرض القانون على الأشخاص احترام الواجبات المحمولة عليهم في المجتمع وعدم المساس بما لغيرهم من حقوق.
ولا بد من الإشارة من باب التدقيق الاصطلاحي، ان التفريق بين مصطلحي القانون والحق في اللغة العربية هو امر سهل باعتبار اختلاف المفهومين صياغة ومضمونا. اما في اللغة الفرنسية، فتدق التفرقة لان عبارة "Droit" تطلق في آن واحد على مفهومي القانون والحق ولها بذلك معنيان: فهي تدل من جهة على مجموع القواعد السلوكية التي تنظم العلاقات في المجتمع. وهذا هو القانون. وهي من جهة أخرى تشير الى ما يمنحه القانون الى الافراد من سلطات وصلاحيات وامتيازات. وهذه هي الحقوق. وتسهيلا للتمييز بين المعنيين، يضاففي اللغة الفرنسية أحيانا الى مصطلح « Droit » صفة « Objectif » فيقال" Droit Objectif" (قانون موضوعي) للدلالة على معنى القانون او القاعدة القانونية. وتضاف أحيانا أخرى عبارة « Subjectif » فيقال « Droit Subjectif » (حق ذاتي) للإشارة الى فكرة الحق.
والملاحظ بالرجوع الى كتب القانون ان الشراح او ما يطلق عليه "الفقه" « La doctrine » لم يستقروا على تعريف « Définition »  موحد لمعنى "الحق" ، اذ هناك عموما ثلاثة اتجاهات و نظريات في هذا الصدد نعرضها تباعا:
1/ النظرية الشخصية  « La Théorie Personnelle » :
وتعرف أيضا بنظرية الإرادة « La Théorie de la volonté ». ويرى أصحابها ان إرادة الانسان صاحب الحق هي العنصر الأساسي في تحديد مفهومه. وعليه، فهم يعرّفون الحق بانه قدرة او سلطة يمنحها القانون لإرادة الفرد لممارسة صلاحيات معينة. ومثال ذلك حق الملكية الذي هو بتعريفه سلطة للشخص على شيء يمكن له بمقتضاها استعماله واستغلاله والتصرف فيه حسب ارادته وفي نطاق القانون (الفصل 17 من مجلة الحقوق العينية). ومثال ذلك أيضا، الحق الشخصي للدائن الذي هو سلطة يمنحها القانون له، يمكنه بمقتضاها مطالبة مدينه بالوفاء بدينه واجباره على ذلك في صورة مماطلته عن طريق الوسائل المتاحة قانونا.

2/النظرية الموضوعية « La théorie objective » :
ويطلق عليها أيضا نظرية المصلحة « La théorie de l’intérêt ». وتنعت هذه النظرية بأنها موضوعية، لأنها لا تركز على أصحاب الحق بقدر موضوعه، أي الغاية التي يحققها لهؤلاء. فلكل حق غاية محددة يهدف اليها. وتتمثل في تحقيق منفعة او مصلحة لفائدة الفرد يضفي عليها القانون حمايته عن طريق الدعوى القضائية. وهذه المصلحة يمكن ان تكون مادية كحق الضحية في مطالبة المعتدي بالتعويض لها عن الاضرار البدنية أو المالية التي أصابتها من جراء فعله. ويمكن ان تكون المصلحة معنوية كالحق في الصورة وحرية المعتقد والحرية الفكرية. وانطلاقا من هذه الاعتبارات يعرف أصحاب النظرية الموضوعية الحق بانــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه    "مصلحة يحميها القانون"                « Un intérêt juridiquement protégé ».
 لكن كلا من النظريتين الشخصية والموضوعية كانتا محلا للنقد من قبل العديد من فقهاء القانون، مما أدى الى بروز نظرية حديثة مختلطة.

3/ النظرية الحديثة او المختلطة « La théorie mixte »: 
تسعى هذه النظرية الى إيجاد تعريف وسط يوفق بين النظريتين السابقتين القائمتين على فكرتي الإرادة والمصلحة. ويرى أصحاب هذا الاتجاه ان الحق هو في الآن ذاته قدرة ارادية للفرد ومصلحة يضمنها القانون. ومن بين التعريفات المقترحة من هؤلاء ما ذهب اليه الأستاذ هنري كابيتان Henri Capitant الذي اعتبر ان الحق هو "مصلحة مادية او أدبية يحميها القانون بتخويل صاحبها سلطة القيام بالأعمال الضرورية لتحقيقها". وهناك أيضا من اعتبر ان "الحق سلطة يقررها القانون لشخص معين يستطيع بمقتضاها القيام بأعمال معينة تحقيقا لمصلحة يقرها القانون".
على انه مهما اختلفت الاتجاهات وتنوعت التعريفات، فالثابت ان فكرة الحق تفترض توفر ثلاثة عناصر أساسية :
- صاحب الحق أي الشخص الذي يتمتع به ويمارسه.
- موضوع الحق أي المنفعة او المصلحة التي يحققها لصاحبه.
- الحماية القانونية للحق، باعتبار انه لا يمكن ان يوجد حق الا إذا أباحه القانون ووفر له ما يلزم من وسائل لحمايته.
- ويقر القانون للأشخاص حقوقا كثيرة لا يمكن عدها او حصرها. ويهدف هذا الدرس الى تمكين الطالب من الوقوف على القواعد الأساسية والمبادئ الكبرى التي تحكم الحق من خلال التعرض الى مختلف أصنافه وأقسامه (الجزء الأول) مرورا بأصحابه (الجزء الثاني) ووصولا الى الاحكام المنظمة لكيفية إثباته أمام القضاء سعيا لتوفير ما يقتضيه من حماية قانونية (الجزء الثالث).
- الجزء الأول: أقسام الحق.
- الجزء الثاني: أصحاب الحق.
- الجزء الثالث: إثبات الحق.

الجزء الأول: أقسام الحق.
يمكن تقسيم الحقوق اما بالرجوع الى موضوعها (الباب الأول) او اعتمادا على مصدرها (الباب الثاني).

الباب الأول: تقسيم الحقوق اعتمادا على موضوعها.
تنقسم الحقوق حسب موضوعها الى صنفين: حقوق ذات قيمة مالية يمكن التصرف فيها بسائر التصرفات القانونية: وتسمى حقوقا مالية او كذلك حقوقا تابعة للذمة المالية (Droits Patrimoniaux) (القسم الأول). وحقوق مرتبطة بذات الانسان ومقوماته المادية والمعنوية ولا يمكن تقييمها بالمال ولا التعامل فيها. وتسمى حقوقا غير مالية او حقوقا خارجة عن الذمة المالية « Droits extra patrimoniaux » (القسم الثاني).

القسم الأول : الحقوق المالية .
الحقوق المالية هي الحقوق القابلة للتعامل بين الافراد ومن شأنها ان تكون ذات قيمة نقدية. ويصفها بعض الشراح بحقوق الذمة المالية لأنها تكوّن الجانب الإيجابي من الذمة المالية للشخص (L’actif).
ومن هذا التعريف يتبين ان الحقوق المالية تتميز بالخصائص التالية :
- أنها قابلة للإحالة بين الاحياء عن طريق مختلف التصرفات القانونية من بيع وشراء ومعاوضة وهبة...
- أنها قابلة للانتقال بسبب الوفاة عن طريق الميراث الى الورثة.
- انها قابلة للتقادم بمرور الزمن بنوعيه المسقط او المكسب.
- انها قابلة للتنفيذ عليها عن طريق العقلة والبيع الجبري بسعي من الدائن وذلك في صورة عدم وفاء مدينه بالالتزام الذي يتحمله نحوه.


قابلة للإحالة 
قابلة للانتقال
الحقوق المالية            قابلة للتقادم 
قابلة للتنفيذ
ويتجه، قبل التعرض الى مختلف الحقوق العينية (المبحث الثاني)، ابداء بعض التوضيحات الضرورية حول مفهوم الذمة المالية (المبحث الاول).

المبحث الأول: مفهوم الذمة المالية.
يطلق مصطلح الذمة المالية في اللغة المتداولة عادة على ما يمتلكه الأشخاص من أشياء وثروات. اما في لغة القانون فالمقصود بالذمة المالية هو مجموع ما للشخص وما عليه من حقوق والتزامات مالية حاضرة ومستقبلة.
ويترتب عن هذا التعريف ان الذمة المالية تتركب من جانبين:
- جانب إيجابي «L’actif» يشمل ما يثبت للشخص من حقوق مالية.
- وجانب سلبي «Le passif» يتمثل في مجموع الديون والالتزامات التي يتحملها الشخص نحو غيره.
ويمكن ان تفوق قيمة الجانب السلبي (الديون) قيمة الجانب الإيجابي (المكاسب) دون ان يؤدي ذلك الى اضمحلال الذمة المالية. ولهذا شبهها الشراح بوعاء «Enveloppe» تتداخل فيه حقوق الشخص والتزاماته. وهذه الحقوق والالتزامات قابلة للتغير باستمرار بالزيادة او النقصان. فيزول بعضها ويدخل بعضها الآخر ليحل محل غيرها دون ان يؤثر ذلك على وجود الذمة المالية التي تظل قائمة كوعاء قابل لأن يمتلئ وان يفرغ باستمرار.
وعلى غرار القانون الفرنسي، تتميز الذمة المالية في القانون التونسي بأنها مرتبطة أشد الارتباط بالشخصية القانونية. فهي المظهر المالي للشخصية. مما تنجر عنه النتائج التالية:

1/ لكل شخص ذمة مالية. وهو يتمتع بها حتى لو كان معدما لا يملك أي شيء او كان مفلسا وغارقا في الديون.
2/ لا تثبت الذمة المالية الا للأشخاص الطبيعيين او المعنويين الذين لهم شخصية قانونية. أما غيرهم من الكائنات (الحيوانات) او المجموعات القانونية الفاقدة للشخصية القانونية كالشركة المدنية مثلا أو تجمع الشركات (Le groupe de sociétés  )فلا ذمة مالية لها .
3/ تبقى الذمة المالية ببقاء الشخص وتزول بزواله.
4/ ليس للشخص الا ذمة مالية واحدة لا تتجزأ ولا تتعدد. وهو ما يعبّر عنه بوحدة الذمة المالية «L’unité du patrimoine» . ويؤدي هذا المبدأ الى تمكين الدائنين من تتبع جميع ما يملكه المدين من أشياء اقتضاء لديونهم. وهو ما أقره المشرع صراحة في الفصل 192 م ح ع بقوله: "مكاسب المدين ضمان لدائنيه".
فمثلا: اذا اعسر احد التجار وفاقت ديونه قيمة ما له من أموال، حقّ لدائنيه الذين نشأت ديونهم في إطار التعامل التجاري التنفيذ لا فقط على مكاسبه المخصصة لنشاطه التجاري (البضائع والتجهيزات والمعدات...) بل وكذلك على ممتلكاته الخاصة (منزله او سيارته او أثاث بيته... ). ولا يمكن للمدين هنا أن يلزم دائنيه التجار بحصر أعمال التتبع في المكاسب المخصصة لنشاطه التجارية وعزل ممتلكاته الأخرى عن مجال التنفيذ.
ويعتبر هذا المثال مدخلا لاستعراض مختلف أنواع الحقوق الداخلة في الذمة المالية.

المبحث الثاني : مختلف الحقوق المالية 
تنقسم الحقوق المالية بدورها الى حقوق عينية (الفقرة الأولى) وحقوق شخصية (الفقرة الثانية). ويضاف الى هذين المجموعتين صنف ثالث يدعى بالحقوق الفكرية (الفقرة الثالثة).

الفقرة الأولى : الحقوق العينية « Les droits réels » 
■تعريف : يعرّف الحق العيني بانه سلطة قانونية يمارسها شخص على شيء مادي قابل للتملك، تخوله الحصول على منافعه الاقتصادية سواء كليا ام جزئيا. ويسمى عينيا لأنه يتعلق بالعين،أي الشيء (La chose). ومن خصائصه انه يمنح لصاحبه استئثارا يحميه القانون ويجعل العلاقة بينه وبين محله (أي الشيء الذي يتسلط عليه الحق العيني) علاقة مباشرة دون واسطة أحد. ومثال ذلك المالك الذي له الحق في ممارسة ما يمنحه له حق الملكية من صلاحيات (استعمال واستغلال وتصرف) وحده دون تدخل أي شخص آخر.
وتتكون الحقوق العينية من صنفين : الحقوق العينية الاصلية من جهة والحقوق العينية التبعية من جهة أخرى.
■ أمّا الحقوق الاصلية فهي التي تقوم مستقلة بذاتها دون الاستناد الى حق آخر تتبعه او تضمنه. وتنقسم بدورها الى : حق الملكية باعتباره أكمل الحقوق العينية وأشملها. والحقوق المتفرعة عنه. واهمها: حق الانتفاع وحق الاستعمال وحق السكنى وحق الارتفاق . وقد ورد تعداد الحقوق العينية بنوعيها في الفصل 12 م ح ع.
■ واما الحقوق التبعية فهي لا تنشأ مستقلة وانما تكون تابعة لحق شخصي (دين) ضمانا لاستيفائه ومن هنا جاءت تسميتها "بالضمـــــــــــــــــــــــــــانات او التأمينــــــــــــــات العينية ".« Les garanties ou les suretés réelles » . وهي كما عددها الفصل 193 م ح ع الامتياز والرهن وحق الحبس.

على ان الحقوق العينية مهما تنوعت، فلها خصائص مشتركة أهمها ما يلي:
1/ الحق العيني هو حق مطلق، أي يحتج به ويعارض به جميع الأشخاص لحملهم على احترامه وعدم الاعتداء عليه بشرط التقيّد بالإجراءات والشكليات الضرورية لإشهاره.
2/ الحق العيني يخول لصاحبه ممارسة حق التتبع على العين تحت أي يد انتقل إليها لاستردادها واستحقاقها. وإذا تعلق الأمر بتأمين عيني فإن الدائن صاحب الضمان يمكنه التنفيذ على العين ولو بين يدي الغير الذي انتقلت إليه ملكيتها عملا بالفصل 270 م ح ع في صورة الرهن العقاري مثلا أو  الفصل 316 م اع في إطار حق الحبس.
3/ الحق العيني يمنح صاحبه حق الأفضلية على كافة المزاحمين له. وأبرز مثال على ذلك نجده في باب الرهن الذي عرّفه المشرع في الفصل 201 م ح ع بأنه الحق الذي يخول صاحبه استخلاص دينه بالأفضلية على بقية الدائنين.

الفقرة الثانية : الحقوق الشخصية « les droits personnels » 

تكوّن الحقوق الشخصية الطائفة الثانية من الحقوق المالية. والحق الشخصي هو سلطة قانونية يمكن بمقتضاها لشخص يدعى الدائن (Le créancier) مطالبة شخص آخر يسمى المدين (Le débiteur) بتنفيذ التزامه (L’obligation) سواء أكان موضوع هذا الالتزام إعطاء شيء « Donner » او القيام بعمل « Faire »  او الامتناع عن القيام بعمل « Ne pas faire ».

ويفضي هذا التعريف الى عدة نتائج أبرزها ما يلي:
أولا : ان الحق الشخصي هو رابطة بين شخصين، الدائن من جهة والمدين من جهة أخرى، خلافا للحق العيني الذي هو علاقة قانونية بين الشخص صاحب الحق والشيء او العين محل الحق. واذا نظرنا الى الحق الشخصي من جهة الدائن وجب الحديث عن حق الدائنية (Le droit  de créance) أي سلطة الدائن في مطالبة المدين بأداء ما التزام به وجبره على ذلك عن طريق الوسائل القانونية عند الاقتضاء. أما اذا وجّهنا النظر الى مركز المدين، فنتحدث عن "الالتزام" (L’obligation) أي الواجب الذي يتحمله المدين إزاء الدائن في أداء ما التزم به وخضوعه الى التنفيذ الجبري اذا امتنع عن الوفاء الارادي بما عليه.

ثانيا : ان الحق الشخصي يتكون من ثلاثة عناصر:
- طرفا الحق وهما الدائن والمدين. وقد يتعدد الدائنون او المدينون أحيانا حسب ظروف التعامل.
- محل الحق الشخصي وهو الواجب الإيجابي (إعطاء شيء او عمل شيء) او السلبي (عدم العمل) الملقى على عاتق المدين.
- الحماية القانونية للحق الشخصي عن طريق الدعوى القضائية المتاحة للدائن ووسائل التنفيذ الجبري التي يمكن له ممارستها عن طريق عقلة وبيع مكاسب المدين واستخلاص دينه من ثمنها.

ثالثا : أن موضوع التزام المدين لا يخلو من أحد ثلاثة:
- اما إعطاء لشيء للدائن، مثل نقل ملكية المبيع من البائع الى المشتري.
- واما القيام بعمل، مثل تشييد بناء من قبل المقاول أو تسليم بضاعة من قبل البائع أو علاج مريض من لدن الطبيب...
- واما الامتناع عن عمل. ومثال ذلك التزام مشتري المحل التجاري بعدم منافسة البائع في تجارته او التزام الاجير بعدم العمل لدى احد منافسي مشغله السابق.

وانطلاقا من هذه العناصر والخصائص يتضح ان الحق الشخصي يختلف عن الحق العيني من عدة أوجه:
1/ هو حق نسبي لأنه لا يقوم الا بين طرفيه ولا يعارض به الغير تطبيقا للفصلين 240 و241 م ا ع. خلافا للحق العيني الذي يواجه به الكافة.
2/ الحق الشخصي لا يخول لصاحبه الا التنفيذ على المكاسب الموجودة في ذمة المدين ولا وجود فيه لحق تتبع.
3/ الحق الشخصي محكوم بمبدإ المساواة بين الدائنين عملا بالفصل 192 م ح ع (حق الضمان العام) خلافا للحق العيني الذي يمنح لصاحبه حق الأفضلية.

الفقرة الثالثة : الحقوق الفكرية

الحقوق الفكرية هي حقوق لها طبيعة مزدوجة، مالية وغير مالية. وهي لا تنسجم من التفرقة بين الحقوق العينية والحقوق الشخصية. ذلك انها لا تمارس ضد شخص معين (خلافا للحق الشخصي) ولا تتسلط على شيء مادي (خلافا للحق العيني). ولكنها تقترب من الحقوق المالية لأنها تشمل جانبا ماليا متمثلا في حق الاستغلال (Le monopole d’exploitation) المخول لصاحبها . مع أن هذا الالتقاء مع الحقوق المالية ليس مطلقا لان الحقوق الفكرية تتضمن جوانب أدبية ومعنوية غير مالية تتمثل خاصة في الابداعات التي ينتجها العقل من اعمال أدبية وفنية واختراعات وصور وتصاميم مستغلة في الميدان الصناعي والتجاري وهي عموما ما يلي:
- حقوق التأليف. وتشمل المصنفات الأدبية (روايات، قصائد شعرية ، مسرحيات...)
- الملكية الصناعية، التي تضم خاصة براءات الاختراع والعلامات التجارية والنماذج الصناعية.
وتوجد في القانون التونسي عدة نصوص تنظم الحقوق الفكرية وتحمي حقوق أصحابها. ومن هذه النصوص يتضح ان الحقوق الفكرية تتكون من جانب مالي يتمثل في حق المؤلف او المخترع او المنتج في استغلاله منتوجه الفكري والتصرف فيه. وجانب معنوي يبرز من خلال الحماية القانونية المقررة للفكر والابداع والابتكار.

ويبقى الآن أن نتناول بالدرس الحقوق غير المالية.


jeudi 14 mai 2020

التأمينات العينية: آثار الامتيازات (الأفضلية والتتبع)


الجزء الثالث: آثار الامتيازات

تتمحور هذه الآثار حول اثنين: أثر ثابت وهو حق الأفضلية (العنوان الأول) وأثر قابل للنقاش وهو حق التتبع (العنوان الثاني).

              العنوان الأول: حق الأفضلية
صحيح أن الامتياز هو سبب من أسباب التفضيل يخول صاحبه استخلاص دينه قبل غيره من الدائنين.   غير أنه، خلافا لما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، ليست الأمور في الواقع بهذه الدرجة من البساطة، إذ يعتبر تحقيق أفضلية الامتيازات وتحديد رتبتها من أعقد المسائل القانونية المطروحة في مادة التأمينات العينية نظرا لكثرة النصوص المتعلقة بهذه المسائل وتشعبها وفقدان الحلول الحاسمة أحيانا نتيجة غموض النص تارة أو غيابه تارة أخرى. كما أن أفضلية الديون الممتازة تختلف بحسب ما إذا كان تزاحمها قائما في إطار التتبعات الفردية أم الجماعية. ويفرض هذا التمييز بين نوعي الإجراءات نفسه فرضا لأن المشرع أفرد الدائنين في ميدان التنفيذ الجماعي (الفرع الثاني)، بمختلف أنواعهم، بترتيب خاص في الفصل 569 من المجلة التجارية مختلف عن الترتيب المنطبق في إطار التنفيذ الفردي (الفرع الأول).


 الفرع الأول: الأفضلية في إطار التنفيذ الفردي
لتحديد أفضلية الامتيازات في إطار التنفيذ الفردي، يتجه الانطلاق من النص الاساسي في هذا المجال وهو الفصل 195 م ح ع الذي تضمن ما يلي: "الدين الممتاز مفضل على غيره من الديون وحتى الديون الموثقة برهن عقاري.
وتفضيل بعض الدائنين الممتازين على بعض يعتمد على اختلاف صفات الامتيازات".

ويلاحظ انطلاقا من هذا النص أن المشرع تناول في مرحلة أولى أفضلية الامتياز عند تزاحمه مع الديون الأخرى غير الممتازة (الباب الأول) وتحدث في مرحلة ثانية عن الأفضلية عند تزاحم الامتيازات فيما بينها (الباب الثاني).

الباب الأول: الأفضلية عند تزاحم الامتياز مع الديون غير الممتازة

تبدو الحلول سهلة في هذا المجال بما أن الفصل 195 في فقرته الأولى كان واضحا لمّا اعتبر أن الدين الممتاز مفضل على غيره من الديون وحتى على الديون الموثقة برهن عقاري. وتطبيقا لهذه القاعدة فان الدائن الممتاز تكون له الأولوية على كل من الدائن العادي والدائن المرتهن لعقار والدائن المرتهن لمنقول فضلا عن الدائن الحابس. وتشديدا على ذلك استعمل المشرع حرف التأكيد "حتى" لرفع أي اشتباه أو شك في الافضلية التي يتمتع بها الدين الممتاز إزاء سائر الديون الأخرى. ويرتكز هذا التفوق على عنصر "صفة الدين" في الامتياز، إذ أن الاعتبارات والأسباب المختلفة التي أملت على المشرع إقرار حقوق الامتياز وإيثار بعض الديون على بعض هي نفسها التي فرضت عليه منحه الأفضلية على بقية الديون الأخرى مهما كانت طبيعتها.
ومع ذلك، وجب التنبيه إلى أن أفضلية الدين الممتاز وإن كانت محققة فهي ليست مطلقة. ذلك أن المشرع أدخل بعض الاستثناءات على قاعدة الفصل 195 م ح ع وإن كانت قليلة. جاء أولها بموجب الفصل 65 من مجلة التجارة البحرية الذي نص في فقرته الثالثة على أن الرهن البحري مقدم دائما على الامتيازات غير البحرية عامة كانت او خاصة. وثانيها، بمقتضى الفصل 17 من القانون المنظم لرهن أدوات ومعدات التجهيز المهنية الذي اقتضى ان هذا التامين يتمتع "بالأولوية على كل الامتيازات الأخرى باستثناء امتياز المصاريف المبذولة للحفاظ على الأدوات والمعدات المرهونة ومستحقات العملة والمستخدمون من الأجور غير الخالصة". كما يشار الى عدد من القوانين القديمة التي نصت على غلبة بعض الرهون الخاصة على الامتيازات كالفصل 3 من الأمر المتعلق برهن منتوجات المناجم والفصلين 3و4 من الأمر المتعلق بالرهن الفلاحي والفصل 9 من الأمر المتعلق بوران المخازن العمومية والفصل 13 من الأمر المنظم للواران الخاني والفصل 12 من الأمر المتعلق بالوران الصناعي، ثم استثنت بعض الامتيازات التي تضمن عموما ديون الخزينة او الحفظ او الأجراء.
وتعكس مختلف هذه النصوص رغبة المشرع في حماية بعض التأمينات خدمة لغايات وأهداف أخرى كتشجيع التجارة والمبادلات الدولية بتفضيل حقوق الدائن في الرهن البحري او حثّ المزودين على تمكين الحرفيين او المهنيين الشبان من بعث مشاريعهم الاقتصادية بتوثيق ديونهم برهن على المعدات او الآلات المبيعة مع تفضيلها على غيرها من الحقوق !!

الباب الثاني: الأفضلية عند تزاحم الامتيازات فيما بينها

توجد ثلاثة أشكال للتزاحم داخل الامتيازات:
- تزاحم الامتيازات العامة فيما بينها (الفقرة الأولى).
- تزاحم الامتيازات الخاصة فيما بينها (الفقرة الثانية).
- تزاحم الامتيازات العامة مع الامتيازات الخاصة (الفقرة الثالثة).

الفقرة الأولى: تزاحم الامتيازات العامة فيما بينها

هو تزاحم حتمي باعتبار ان الامتيازات العامة تقع على نفس المحل وهو مكاسب المدين وأمواله برمّتها. وبما أن الامتيازات العامة تتزاحم بالضرورة فيما بينها فقد حرص المشرع على ترتيبها معتمدا في ذلك على معيار صفة الدين. بمعنى أن المشرع إذ أحدث الامتيازات العامة بناء على اعتبارات ومبررات قدّرها، تولى أيضا تحديد رتبتها اعتماداعلى نفس المعيار. وكلّما كانت صفة الدين أقوى وأعلى شأنا في نظر المشرع، كلّما كانت رتبة الامتياز أسمى وأرفع.
وهذا ما نلاحظه في الفصل 199 م ح ع الذي يعد أهم نص منظم للامتيازات العامة. وفعلا فقد تولى المشرع صراحة في هذا النص بيان درجات الامتياز على النحو التالي: في أعلى الترتيب نجد مصاريف تجهيز الميت ثم مصاريف التداوي ثم المصاريف القضائية ثم ديون الخزينة العامة وفي الأخير الامتيازات ذات الصبغة المعاشية.
ويعدّ الفصل 199 م ح ع بهذا المعنى نصا مرجعيا باعتبار أنّ بقية النصوص المتعلقة بالامتيازات العامة تحيل إليه إمّا صراحة أو ضمنيا. وجاءت هذه النصوص على نوعين: بعضها تقيّد بترتيب الفصل 199 وبعضها الآخر غيّره وعدّله.
ويشمل النوع الأول خصوصا النصوص المتعلقة بامتياز الخزينة العامة كالفصل 115 من مجلة معاليم التسجيل والطابع الجبائي (م ت ط ج) والفصل 318 من مجلة الشغل (م ش) وكذلك الفصل 33 من مجلة المحاسبة العمومية (م م ع) الذي أقر في فقرته الأولى امتيازا عاما لفائدة الدولة والمؤسسات العامة الإدارية لاستخلاص ديونها على الغير، ثم نص صراحة في فقرته الثانية على أنّ هذا الامتياز يحتل الرتبة المنصوص عليها بمجلة الحقوق العينية. مع الإشارة إلى أن الفصل 351 من مجلة الديوانة يحيل إلى الفصل 33 م م ع متبنيا بمقتضى ذلك نفس الرتبة المقررة لديون الدولة في الفصل 199 م ح ع.

أمّا في خصوص النوع الثاني فيمكن أن نشير إلى نصّين: أولا، الفصل 66 من مجلة التأمين الذي اقتضى أن الامتياز العام للمنتفعين بعقود التأمين يقدم على الامتياز العام للخزينة خلافا لما تضمنه الفصل 199 من مجلة الحقوق العينية. وثانيا، الفصل 151 -2 م ش، المتعلق بامتياز الأجراء والذي يستفاد منه أنّ أجور العمال تحتل في جزئها غير القابل للعقلة الرتبة الأولى قبل أي امتياز آخر وفي جزئها المتبقي الرتبة الرابعة في الفصل 199 م ح ع قبل المبالغ المستحقة للخزينة. ونتيجة لهذين النصين سوف تتأخر رتبة امتياز الخزينة لفائدة كلّ من امتياز الاجراء بنوعيه المدعم والعادي وامتياز المنتفعين بعقود التأمين.

ولا تفوت الإشارة في هذا السياق إلى أن عدة نصوص أخرى في مجال الإجراءات الجماعية أدخلت تغييرا على الترتيب المقرر في الفصل 199 م ح ع ومن بينها نصوص تتعلق بامتياز الأجراء ذاته. وهذا ما سنتناوله لاحقا في نطاق الفرع الثاني. وفي انتظار ذلك، يتجه إبداء بعض التوضيحات حول تطور هذا الامتياز للمساعدة على فهمه.  فقد تم إقراره امتياز الأجراء سنة 1906 في الفصل 1630 م اع الذي منحه الدرجة الرابعة في ترتيب الامتيازات قبل امتياز الخزينة. ثم جاء الأمر العلي المؤرخ في 27 جانفي 1955 ومنحه الرتبة الأولى لضمان الجزء من الأجور المبين بالفصل الثاني منه في صورة التصفية العدلية او التفليس. وبذلك ظهرت التفرقة بين الامتياز العادي للأجور (الفصل 1630 م اع) والامتياز المدعّم (Le super privilège) (أمر 1955). واستقرت هذه التفرقة بعد الاستقلال باعتبار أنّ المجلة التجارية الصادرة سنة 1959 ميزت بين الامتياز المدعّم الذي يشمل الجزء غير القابل للعقلة من مستحقات الأجير (الفصل 564م ت) والامتياز العادي الذي يضمن خلاص بقية المستحقات (الفصل 566 م ت). ثم تأكدت هذه الازدواجية بدخول مجلة الحقوق العينية حيّز التنفيذ بما أنها كرّست في الفصل 199 الامتياز العادي للأجور مع الحط من درجته إلى الرتبة الأخيرة بعد امتياز الخزينة حال انه كان يسبقها. ولعلّه يمكن تفسير تفوق امتياز الخزينة بطبيعة النظام الاقتصادي المتبع في الستينات من القرن الماضي، وهو نظام موجه يقوم على دعم الدولة التي تعتبر المشغل الرئيسي للأفراد بما أنها هي التي تتكفل بتوفير مواطن العمل والنهوض بالسياسة الاجتماعية للبلاد، ومن ثمّ كان لزاما أن تتقدم على العامل. لكن السياسة الاقتصادية تغيرت في تسعينات القرن العشرين تماشيا مع التوجه اللّبرالي والتحرري، مما أفضى إلى تناقص التدخل المباشر للدولة أمام امتداد وتوسع الاقتصاد الخاص والمبادرات الفردية. وهذا ما أوجب نظرة حمائية أقوى وأنجع لفائدة الأجراء تبلورت بوضوح في تأخر رتبة امتياز الخزينة وتدعيم رتبة امتياز الأجراء بموجب الفصل 151-2 م ش. وما يؤكّد هذا التدعيم أن المشرع وسّع في نطاق الامتياز المدعّم للأجور ليشمل مادة التنفيذ الفردي بعد ان كان مقتصرا بمقتضى الفصل 564 م ت على الميدان التجاري في إطار الفلسة فحسب. لكننا سنرى أن موقف المشرع تغير بموجب القانون المؤرخ في 29 أفريل 2016 المتعلق بالإجراءات الجماعية حيث ستتقهقر  رتبة الامتياز العادي للأجراء إلى ما بعد رتبة امتياز الخزينة العامة عملا بالفصل 571 من المجلة التجارية.
الفقرة الثانية: تزاحم الامتيازات الخاصة فيما بينها

خلافا لمادة الامتيازات العامة، فان تزاحم الامتيازات الخاصة فيما بينها هو تزاحم استثنائي وليس حتميا. ولذلك فإن أغلب النصوص المحدثة لامتيازات خاصة لم ترتّبها. وفعلا، فالامتيازات الخاصة تتسلط على مكاسب وأموال مختلفة منقولة وعقارية، ولا يتصور مثلا، تزاحم امتياز خاص على عقار (امتياز التحيين) مع امتياز خاص على منقول (امتياز بائع الأصل التجاري) أو تزاحم امتياز خاص على منقول (امتياز بائع العربات) مع امتياز خاص آخر على منقول (امتياز بحري). ومادام التزاحم مفقودا فلا حاجة إذن للترتيب.
ومع ذلك، لا شيء يمنع في الواقع من حصول تنافس بين امتياز على عقار وامتياز على منقول أو بين امتيازين خاصين على عقار أو على منقول. وعندئذ لا بد من إيجاد حلول لفضّ هذا التنافس. وهذا ما تصدى له شراح القانون انطلاقا من معيار صفة الدين المشار إليه بالفصل 195 م ح ع (فقرته الثانية) حيث ورد: "تفضيل بعض الدائنين الممتازين على بعض يعتمد على اختلاف صفات الامتيازات". وللوقوف على الاجتهادات الفقهية في هذا المجال، يتجه التمعن أولا في المعنى الدقيق لصفة الدين في الامتيازات الخاصة (أ) قبل النظر في كيفية ترتيب هذه الحقوق عند قيام تزاحم بينها(ب).

أ-معنى صفة الدين في الامتيازات الخاصة:
 يرى أغلب الشرّاح أن الامتيازات الخاصة تقوم على الأسس الثلاثة الآتية:

أولا – فكرة الرهن الضمني: والمقصود بهذه الفكرة هو ان الاعتبارات التي دفعت المشرع إلى تقرير عدد من الامتيازات الخاصة تستند أحيانا إلى أن الإرادة الضمنية للمدين اتجهت إلى تمكين الدائن من رهن خاص على المكاسب الراجعة له. وتتحقق هذه الفكرة أساسا في الامتيازات التي يتمتع أصحابها بسلطة مادية على أموال المدين محل هذه الامتيازات. وأبرز مثال على ذلك هو امتياز المكري الذي ينبسط على المحصول الناتج عن العين المكراة (صابة، غلة...) والمنقولات الموجودة او المتصلة بها (أثاث، معدات، آلات...). وتظهر السلطة المادية للمكري من خلال حق الحبس الذي يتمتع به على الأشياء المذكورة عملا بالفصل 788 م ا ع. وحق التتبع المخول له بمقتضى الفصل 200 (ثانيا) م ح ع في صورة خروج تلك الأشياء من العين مخادعة. كما تظهر فكرة الرهن الضمني بوضوح في امتياز عميل الوساطة وامتياز عميل نقل الأشياء بما أن أفضليتهما ترتبط بالحيازة الفعلية او الحكمية للبضائع المرسلة لهما او المودعة او المؤمنة عندهما.

ثانيا-فكرة إثراء ذمة المدين: وهي فكرة بسيطة مفادها انه إذا انتقلت ملكية مال معين من الدائن الى المدين فمن العدل والإنصاف ان يستوفي الدائن حقه من هذا المال قبل غيره من الدائنين بما انه هو الذي كان سببا في اغتناء ذمة مدينه به. وتبرز هذه الفكرة في الامتيازات التي أُقرّت لاستخلاص ديون ناشئة عن عمليات تفويت كامتياز بائع السيارات والجرارات وامتياز بائع البذور وامتياز بائع الأصل التجاري وامتياز مزودي الأشغال العامة وامتياز العقلة والتبتيت. وواضح ان الامتياز يضمن في كل هذه الصور ثمن التفويت. وهو ما من شأنه أن يشجع المفوّت على التعامل مع المفوّت له ومنحه الائتمان ويطمئنه على استخلاص دينه عندما يكون التزام المفوّت له بالدفع مؤجلا.

ثالثا-فكرة الحفظ: إذا كان من يثري ذمة غيره يتمتع بامتياز، فمن المنطقي ان يتمتع بمثل هذا الحق الدائن الذي يكون له الفضل في المحافظة على ذمة مدينه الإبقاء على مكوناتها وعناصرها سواء في منفعة المدين مباشرة كما هو الحال في امتياز مصاريف الجني عملا بالفصل 200 (أولا) م ح ع، او في منفعته هو وبقية الدائنين مثلما هو الشأن في امتياز مصاريف التوزيع والترتيب على معنى الفصول 480 و484 و488 م م م ت.
ويبقى بعد عرض الأسس المكونة لصفة الدين في الامتيازات الخاصة النظر في كيفية ترتيبها.

ب-ترتيب الامتيازات الخاصة:
 يختلف هذا الترتيب بحسب ما إذا كان التزاحم حاصلا بين امتيازات خاصة لها صفات مختلفة وأسس متباينة أو بين امتيازات مستندة إلى نفس الصفة والأساس.

3  في الصورة الأولى، يمكن تصور تزاحم بين امتياز قائم على فكرة الرهن الضمني مع امتياز قائم على فكرة إثراء ذمة المدين وامتياز قائم على فكرة الحفظ. ويحصل مثل هذا التزاحم إذا كان المدين مثلا فلاحا اكترى ارضا من دائن اول واشترى بذورا من دائن ثان واستعان بدائن ثالث في القيام بأعمال الجني. او كذلك إذا كان المدين تاجرا اشترى عددا من العربات من بائع (دائن اول) وأرسلها او أودعها لدى عميل وساطة (دائن ثان) لنقلها الا انه تمت عقلتها من قبل شخص ثالث تولى بيعها وإتمام الإجراءات اللازمة لتوزيع ثمنها فأصبح دائنا بمصاريف التوزيع والترتيب !! ففي المثال الأول يحق لكل دائن ممتاز استخلاص دينه من المحاصيل الفلاحية وفي المثال الثاني يشترك الدائنون في استيفاء دينهم من ثمن العربات.
ومع ان الاجتهادات تختلف وتتباين في هذا الصدد سواء في قانوننا او في القانون المقارن، الا ان أغلبها يتجه إلى تقديم الامتيازات المستندة إلى الحفظ على الامتيازات القائمة على الرهن الضمني، وهذه على الامتيازات القائمة على إثراء ذمة المدين.
ولا مانع من تبني هذا الترتيب، اذ من المنطقي ان تتفوق صفة الحفظ على الصفتين الأخريين لأنه لولاها لما تيسّر التنفيذ على المال محل الامتياز ولأن عمل الحفظ يستفيد منه جميع الدائنين زيادة على ان ديون الحفظ مقدمة على غيرها من الديون في عدة نصوص صريحة كالفصل 71 (اولا) م ت ب والفصل 199 (ثالثا) م ح ع والفصل 17 من القانون المتعلق برهن أدوات التجهيز والفصل 9 من امر 22 فيفري 1900 المنظم لوران المخازن العمومية. مما يبرر تعميم أفضليتها على غيرها من الامتيازات. اما تفضيل صفة الرهن الضمني على صفة الإثراء فتستوجبه سلطة الدائن الفعلية او الحكمية على محل الامتياز والتي تعزز مركزه إزاء دائنين آخرين يفتقدونها. مع الإشارة الى ان بعض الشراح لا يترددون في تطبيق قاعدة ان "الحيازة في المنقول سند للحائز" على الدائن الذي ينبني امتيازه على الرهن الضمني معتبرين ان من حقه التمسك بحسن نيته لإنكار كل الحقوق المترتبة على المنقول بما في ذلك الامتيازات الأخرى. الا انه لا مجال للأخذ بهذا الرأي، على الأقل في القانون التونسي نظرا لضيق مجال الفصل 53 م ح ع. بما انه لا يمكن ان يعتصم به إلا الحائزون بوجه الملكية دون اي وجه آخر.

3وأمّا في الصورة الثانية، فيمكن ان يقع التزاحم مثلا بين بائعي بذور متعددين (صفة إثراء الذمة) او بين مكري عقار وبين عميل وساطة (صفة الرهن الضمني) او بين دائن بمصاريف الجني ودائن بمصاريف التوزيع والترتيب (صفة الحفظ). وهنا يمكن تصور أحد حلين: حل أول يتمثل في تطبيق الفقرة الأولى من الفصل 196 م ح ع واعتبار ان الدائنين المتحدين في صفة الامتياز يتساوون في الرتبة، وبالتالي لا أفضلية لأحدهم على الآخر ولا ترتيب بينهم. وحل ثان يسعى إلى إيجاد ترتيب بين الامتيازات المذكورة على أساس صفة الدين.
ويتوقف الحسم في أحد هذين الحلين في الواقع على فهم أعمق للفصل 196 (فقرة اولى) م ح ع الذي اقتضى أنه "إذا تساوى الدائنون في رتبة الامتياز فلا أفضلية لأحدهم على الآخر"، اذ ما المقصود بالتساوي في الرتبة على معنى هذا النص: هل هو الاتحاد في صفة الامتياز باعتبار أن الفصل 194 م ح ع يعرّف الامتياز بصفته وان الفصل 195 (فقرة ثانية) م ح ع يربط الترتيب بالصفة مهما كان نوع الامتياز؟ أم المقصود هو الاتحاد في الرتبة بمعناها الضيق كما حددها المشرع؟؟
إذا تبنّينا الفهم الواسع، فهذا يعني ان التساوي يحصل في كل مرة تلتقي فيها صفة الامتيازات. وينتج عن ذلك ان الامتيازات المتحدة في الصفة تكون دائما متساوية في الرتبة ولا تخضع للترتيب إلا إذا اختلفت صفاتها. أي انه إذا تزاحم دائنون يقوم امتيازهم على فكرة الحفظ او فكرة الرهن الضمني او غيرها فانه لا ترتيب داخل المجموعة من الامتيازات القائمة على نفس الفكرة وإنما مساواة وتحاصص.
أمّا إذا أخذنا الرتبة في معناها الضيق أي الرتبة المنصوص عليها صراحة في نص القانون فهذا يعني ان الامتيازات المتساوية في الصفة يجب ترتيبها. وهو ما توخاه العديد من الشرّاح عند دراستهم للامتيازات الخاصة حيث فضلوا في نطاق امتيازات الحفظ، المصاريف الأخيرة باعتبار أنّ آخر دائن تولى الحفظ هو الأقرب إلى التنفيذ. وغلبوا في نطاق الامتيازات القائمة على الرهن الضمني، صاحب الحيازة الفعلية على من ليست له إلا حيازة حكمية. أما بالنسبة إلى الامتيازات القائمة على فكرة الإثراء فقد أعطوا الأولوية لمن كان أسبق تاريخا في إضافة المال.
وهذا الفهم أجدر بالتأييد في نظرنا لكونه يراعي قواعد تفسير النصوص القانونية المقررة في الفصل 532 م اع.

الفقرة الثالثة: تزاحم الامتيازات العامة مع الامتيازات الخاصة

يعتبر التزاحم بين الامتيازات الخاصة والامتيازات العامة تزاحما ضروريا بما ان صاحب الامتياز العام له الحق في التنفيذ على اي مال من أموال المدين بما في ذلك المكاسب التي يتسلط عليها الامتياز الخاص. ولما كانت نصوص القانون لا تتضمن حلا مبدئيا لهذا التنازع، فيمكن، في تصور أول، الاتجاه الى تغليب الامتيازات العامة اعتمادا على المبررات التالية:
1/ إنّ صفة الدين في الامتيازات العامة أقوى وأجلّ شأنا مما هو الأمر في الامتيازات الخاصة. فالاعتبارات التي تقوم عليها الامتيازات العامة لها صلة إما بالمصلحة العامة (امتياز الخزينة العامة) أو بدوافع إنسانية أو معاشية (امتياز الأجراء أو الأطباء...). أما الامتيازات الخاصة كامتياز بائع الجرارات أو الأصل التجاري او المكري فلا تهدف إلا إلى حماية مصالح خاصة. ومعروف أنه "إذا تعارضت منفعة عامة مع منفعة خاصة ولم يمكن التوفيق بينهما قدّمت العامة" (الفصل 557 م ا ع).
2/ إنّ وعاء الامتياز العام أي المكاسب التي يمتد إليها، هو أكثر شمولا واتساعا من وعاء الامتياز الخاص. ومن ثمّ يمكن القول بوجود رغبة ضمنية لدى المشرع في تمكين صاحب الامتياز العام من استيفاء دينه قبل صاحب الامتياز الخاص. ويتأكد ذلك باعتبار أن هناك من يرى أن صاحب الامتياز العام غير مقيد   بقاعدة التنفيذ الاحتياطي على المنقولات ويحق له التنفيذ على أي مال من أموال المدين، خلافا لصاحب الامتياز الخاص الذي قيّده الفصل 306 م م م ت بواجب عقلة المال موضوع الامتياز أولا فان لم يجده او لم يكن كافيا لخلاصه يمكن له بعد ذلك عقلة بقية المكاسب باعتباره دائنا عاديا لا غير.
 لكن الرأي السائد لدى الاجتهاد الفقهي يذهب الى تفضيل الامتيازات الخاصة على الامتيازات العامة استنادا إلى الحجج الآتية:
1/أن فكرة التخصيص تتوفر في الامتيازات الخاصة دون الامتيازات العامة. ويترتب على هذه الفكرة إقرار الطبيعة العينية للامتيازات الخاصة مقابل نفيها عن الامتيازات العامة. فتعتبر هذه الأخيرة مجرد أوصاف تلحق بعض الديون لتجعلها مفضلة على الديون العادية لا أكثر ولا اقل. أما الامتيازات الخاصة فهي حقوق عينية حقيقية بما أنها تتسلط على أشياء معينة بالذات. وغني عن البيان أن التنازع بين الحق العيني والحق الشخصي يحسم لفائدة الأول نظرا إلى الصلاحيات التي يمنحها لصاحبه.
 2/إن القواعد العامة للتأويل تقتضي أن "الأصل ارتكاب أخف الضررين" (الفصل 556 م ا ع). ولا شك أنّ تفضيل الامتياز الخاص على الامتياز العام يحدث ضررا أقل من الحل المعاكس. ذلك أن منح الأولوية إلى الامتياز العام يمكن أن يؤدي إلى حرمان صاحب الامتياز الخاص من استخلاص دينه باعتبار أنه يحقّ لصاحب الامتياز العام التنفيذ على كل مكاسب المدين بما فيها تلك التي يتسلط عليها الامتياز الخاص. أما إذا سبّقنا الامتياز الخاص، فيبقى دائما لصاحب الامتياز العام الحق في التنفيذ على المكاسب الأخرى للمدين غير المشمولة بالامتياز الخاص.
3/ ردا على الحجة القائلة بضرورة ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عملا بالفصل 557 م ا ع، وجب التنبيه إلى أن هذا الترجيح مشروط بعدم التوفيق بين المصلحتين. أما إذا أمكن ذلك فلا مانع من تغليب المنفعة الخاصة على العامة. وهو ما يتيسّر في صورة الحال بما أنّ حظوظ صاحب الامتياز العام في الاستخلاص تبقى وافرة حتى لو وقع تفضيل الامتياز الخاص عليه. مع التذكير في هذا الصدد بأن قاعدة: "النص الخاص يقدم على النص الخاص" المقررة في الفصل 534 م ا ع، تدعم ترجيح الامتياز الخاص على العام.
4/ إن المشرع أقر صراحة في مجال الإجراءات الجماعية أفضلية الامتيازات الخاصة على الامتيازات العامة (الفصل 569 م ت).

الفرع الثاني: الأفضلية في إطار التنفيذ الجماعي

اقتضى الفصل 569 م ت ما يلي: "يوزع المال المتحصل عليه من إحالة المؤسسة أو بعض أصولها أو كرائها أو كرائها كراء مشفوعا بإحالتها أو بإعطائها للغير في نطاق وكالة حرة أو تفليسها على جميع الدائنين التي اختبرت واعتمدت ديونهم بعد طرح المبالغ التي سبق دفعها، وذلك وفق الترتيب التالي:
ـ الديون ذات الامتياز المدعّم،
ـ الديون ذات الأولوية المنصوص عليها بالفصول 429 و450 و490 من هذه المجلة،
ـ الديون المتمتعة بحق الحبس في حدود النسبة التي تمثلها قيمة المال المحبوس مقارنة بمحصول الإحالة أو معين الكراء الجملي أو التصفية،
ـ الديون ذات امتياز خاص في حدود النسبة التي تمثلها قيمة المال الموظف عليه الامتياز مقارنة بمحصول الإحالة أو معين الكراء الجملي أو التصفية،
ـ الديون ذات امتياز عام وفق ترتيبها. ولا تكون الديون المتمتعة بامتياز الخزينة إلا في حدود أصل الدين ولمدة لا تتجاوز الأربع سنوات السابقة لتاريخ قرار قفل جدول الديون. ولا ينطبق هذا الأجل على الديون الجبائية بعنوان المبالغ المخصومة من المورد و الأداءات على رقم المعاملات و غيرها من الأداءات غير المباشرة و كذلك على ديون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بعنوان قسط المساهمات المقتطعة و المحمول على الأجراء.
وتتحاصص الديون ذات امتياز عام مع الديون العادية في الباقي،
-الديون الموثقة برهون في حدود النسبة التي تمثلها قيمة المال المرهون مقارنة بمحصول الإحالة أو معين الكراء الجملي أو التصفية.
ـ باقي الديون".
ويستدعي هذا النص إبداء الملاحظات الآتية:
1/ أن تطبيقه ينحصر في مجال الإجراءات الجماعية، أي في الصور التي تكون فيها إحدى المؤسسات المشار إليها في الفصل 416 م ت خاضعة لإجراءات الإنقاذ أو التفليس.
2/ أنه يبين الحلول الواجب تطبيقها في صورة التزاحم بين مختلف الدائنين سواء أكانوا مفضلين أم عاديين.
3/ أنه يحيل إلى عدة نصوص متفرقة في الامتيازات العامة أهمها امتياز الأجراء في الفصل 151-2 من مجلة الشغل وامتياز الديون الجديدة في الفصول 429 و450 و490 من المجلة التجارية.
4/ أنه يتضمن ترتيبا خاصا مختلفا عن الترتيب الجاري به العمل في إطار التنفيذ الفردي يستوعب كل أنواع الديون والتأمينات العينية بدءا من الامتيازات بنوعيها العامة والخاصة ومرورا بحق الحبس والرهون وانتهاء بالديون العادية.
aوتتصدر أعلى الترتيب، الديون ذات الامتياز المدعم، التي تدعى أيضا بالامتيازات الممتازة أو الامتيازات من الدرجة الأولى (Les super privilèges). وهي التي أحصاها الفصل 570 من المجلة التجارية كما يلي:
- أجور العملة في جزئها غير القابل للعقلة (الحجز) وفق أحكام الفصل 151 ثانيا من مجلة الشغل.
- ديون المستخدمين والبحارة ونواب التجار المتجولين وممثلي التجارة للستة أشهر الأخيرة السابقة لحكم التسوية القضائية او التفليس.
- الديون المنصوص عليها بالفقرات 1و2و3 من الفصل 199 من مجلة الحقوق العينية. اي مصاريف تجهيز الميت والمصاريف العلاجية فالمصاريف القضائية.
وغني عن التذكير بمبررات منح هذه الامتيازات الرتبة الأولى وهي الاعتبارات المعاشية (الفصل 2.151 م ش) والإنسانية أو الصحية (الفصل199 أولا وثانيا من م ح ع) وكذلك الحفظية ( الفصل 199 ثالثا من م ح ع ).
aوتأتي في المرتبة الثانية مجموعة اخرى من الديون الممتازة. وهي التي أطلق عليها "الديون ذات الأولوية المنصوص عليها بالفصول 429 و450 و490 من هذه المجلة". وتشمل هذه الامتيازات الديون الجديدة في إطار التسوية الرضائية (الفصل 429) والديون الجديدة في إطار التسوية القضائية (الفصل 450) إضافة إلى امتياز المكرى (الفصل 490). وأساس هذه الرتبة هو تشجيع المستفيدين من الامتيازات المذكورة على الانخراط في عملية إنقاذ المؤسسة ومساعدتها على مواصلة نشاطها.
aوتأتي بعد هذه الامتيازات، الديون المتمتعة بحق حبس. وبذلك يصبح للدائنين الذين مارسوا حق حبس على منقول او عقار تابع للمؤسسة إمكانية استخلاص المبالغ التي يستحقونها في المرتبة الثالثة وان كان في حدود قيمة المال المحبوس بعد إحالته او كرائه. وهو أمر طبيعي باعتبار انه لا يمكن التوسع في ميدان حق الحبس خارج مجاله الضيق.
aأما في الرتبة الرابعة فنجد الديون ذات الامتياز الخاص سواء أكان محل الامتياز عقارا أم منقولا. وعلى غرار حق الحبس، ينحصر التفضيل في إطار هذه الامتيازات في حدود قيمة المتحصل من التفويت في المال موضوع الامتياز سواء بمقتضى إحالته او تصفيته او من كرائه.
aثم ترد الامتيازات العامة لتحتل الدرجة الخامسة في قائمة الفصل 569 م ت. لكن المشرع لم يضعها في منزلة واحدة وإنما قرّر الأخذ بها وفق ترتيبها. وهو ما يفضي ضمنيا إلى الإحالة على الفصل 199 م ح ع الذي رتب الامتيازات العامة والى النصوص الأخرى المرتبطة به ضرورة كالفصل 66 من مجلة التأمين الذي ينص على انه "يحمل على أصول مؤسسات التأمين امتياز عام يخصص حسب الأولوية لخلاص المنتفعين بعقود التأمين على الحياة في حدود الاصول المخصصة لهذه العقود يليهم فيما بعد المنتفعون بعقود التأمين على غير الحياة". ويقدم هذا الامتياز على الامتياز العام للخزينة وذلك خلافا للفصل 199 من مجلة الحقوق العينية. على انه سعيا للحد من "تغوّل" امتياز الخزينة، أقر المشرع في الفصل 569 ان المبالغ المستحقة للدولة لا تحتل الرتبة الخامسة الا في حدود أصل الدين ولمدة لا تتجاوز الأربع سنوات السابقة لتاريخ قرار قفل جدول الديون. وتتحاصص ديون الخزينة ذات الامتياز العام مع الديون العادية في الباقي.
aوأما الرتبة السادسة فقد وقع إسنادها إلى الرّهون بأنواعها سواء أكانت عقارية أم منقولة، حيازية أم غير حيازية، اتفاقية أم قانونية وذلك في حدود قيمة المال المرهون. ويعدّ هذا الحكم تطبيقا أمينا للفصل 195 من مجلة الحقوق العينية في فقرة الأولى الذي اقتضى أن الامتيازات تتفوق على سائر الديون وحتى على الديون الموثقة برهن عقاري.
لكن يلاحظ انه خلافا للدائنين الممتازين الذين يتفوقون في الرتبة بقوة القانون، فان أصحاب الرهون لا يتمتعون بأفضليتهم إلا إذا أشهروا رهونهم عن طريق الشكليات المقررة قانونا. وإلا فإنهم يتدحرجون إلى المرتبة الأخيرة في الفصل 569 م ت باعتبارهم دائنين غير مفضّلين يعاملون على قدم المساواة مع الدائنين العاديين ويخضعون مثلهم إلى قاعدة التحاصص.

العنوان الثاني: حق التتبع
خلافا للرهن العقاري الذي يعتبر حق التتبع من آثاره البديهية، يبدو الأمر قابلا للنقاش في ميدان الامتيازات. والسبب هو انعدام أي إشارة إلى هذا الحق في تعريف الامتياز الوارد بالفصل 194 م ح ع وغياب أي نصّ مماثل أو مضاه  للفصلين 270 و280 م ح ع اللذين أسندا صراحة إلى الدائن المرتهن الحق في تتبع العقار المرهون بين يدي الغير.
 فإلى أي مدى يمكن الإقرار بتوافر حق التتبع في الامتيازات من عدمه؟
جوابا عن هذا السؤال يوجد موقفان: موقف مؤيد لوجود حق التتبع وموقف رافض له.
3أما الموقف المؤيّد، فيرتكز على الحجج الآتية:
1/ الامتياز بتعريفه في الفصل 194 م ح ع هو حق عيني، ومن خصائص الحق العيني باعتباره سلطة على الشيء أن صاحبه له الحق في تتبعه بين يدي الغير. وإذا قيل بأن المشرع لم يشر إلى حق التتبع عند تعريفه للامتياز، فيمكن الرد على هذه الحجة بأن المشرع لم يتعرض أيضا إلى هذا الحق بمناسبة تعريف الرهن في الفصل 201 م ح ع ولا أحد ينكر وجود حق التتبع في الرهن العقاري.
2/ الامتياز بتعريفه أيضا هو سبب من أسباب التفضيل. ولا قيمة لحق الأفضلية إذا لم يكن مشفوعا بحق التتبع. وفعلا، إذا كان بإمكان المدين التفريط في مكاسبه دون أن يكون للدائن الممتاز حق تتبعها بين يدي الغير، أصبح حق الأفضلية الممنوح له خاليا من أي فاعلية أو نجاعة نتيجة انعدام المكاسب التي يمكن أن يمارس عليها هذا الحق.
3/ إن حق التتبع متوفر في بقية التأمينات العينية من رهن عقاري ورهن على منقول وحق حبس. وما دام أنّ الامتياز مفضل على هذه التأمينات، فمن المنطقي ان يكون حق التتبع من آثاره الطبيعية ولو في غياب نص صريح وذلك تطبيقا لقاعدة أن "من أمكنه الأكثر أمكنه الأقل".
4/ وجود بعض النصوص التي تشير صراحة إلى جواز ممارسة حق التتبع من قبل الدائن الممتاز. من بينها الفصل 34 من مجلة المحاسبة العمومية الذي اعتبر أن ماسك الثمار أو المداخيل التابعة للمنقولات أو العقارات محل الامتياز بأي عنوان كان هو متضامن وجوبا مع المطلوب الأصلي بإيفاء الضريبة أو الرسم أو المعلوم موضوع ضمانها. والفصل 115 من مجلة معاليم التسجيل والطابع الجبائي الذي نصّ في فقرته الثانية على أنه:" لاستخلاص معاليم التسجيل على التركات تتمتع الخزينة بامتياز على مداخيل الأملاك الواجب التصريح بها وذلك مهما كان الحائز لها". وكذلك الفصل 66 من مجلة التجارة البحرية الذي جاء به:" للدائنين الذين رسم امتيازهم أو رهنهم على سفينة أن يتتبعوها أيا كانت اليد التي انتقلت إليها للمحاصة بديونهم واستخلاصها بحسب درجتها أو درجة ترسيماتهم".
بيد أن هذه الحجج على وجاهتها، لم تلق إجماع الشراح.
3وأما الموقف الرافض، فيعتمد على الأسانيد الآتية:
1/ حق التتبع لا يجوز إلا إذا كان هناك مال معين من أموال المدين مخصص للوفاء بالدين. لكن شرط التخصيص مفقود في الامتياز ات العامة بما أنها لا ترتبط بمال معين وإنما تسري على مكاسب المدين برمّتها. ولا يظهر أثر حق الامتياز إلا في آخر مرحلة من مراحل التنفيذ على مكاسب المدين، أي عند توزيع ثمن البيع على الدائنين.
2/ صحيح أن حقوق الدائن الممتاز تستحق الحماية لاسيما عند تعمد المدين التفريط في مكاسبه تجنبا للتنفيذ عليها. لكن هذه الحماية لا ينبغي أخذها على إطلاقها والتوسع فيها بما أنها جاءت استثناء لقاعدة المساواة.
3/ إن الإشارة إلى حق التتبع في إطار بعض الامتيازات الخاصة على منقول، هو دليل على صبغته الاستثنائية وأن الأصل هو انعدامه، إذ لو كان مقررا كمبدإ عام لما احتاج المشرع إلى الإشارة إليه في نصوص خاصة.
4/ إن ممارسة حق التتبع تقتضي إشهار الامتيازات حتى يمكن الاحتجاج بها على الغير، وقد سبق القول إن الامتيازات تنشأ بقوة القانون ولا تحتاج لوجودها سواء بين الأطراف أو إزاء الغير إلى إشهارها. كما أن ترتيبها يقع استنادا إلى معيار صفة الدين بموجب نص صريح أو بناء على الاجتهاد عند الاقتضاء ولا دخل للإشهار في عملية الترتيب.